رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إدمان الشَّكوى!

أحد العيوب المتجذِّرة فينا كمصريين إدمان الشكوى؛ فنحن نشكو من كل ما يحيط بنا، وتتضاعف الشكوى، بصورة تلقائية، إذا كانت الحكومة هي الطرف الذي يدور حوله الحديث، ولو لم يشكها بعضُنا لبعضٍ فإنه لا يشكرها البتَّة؛ كأن شكواها مقبولة أما شكرها فمرفوض، وهو ميراث شعبي عدواني لو أردنا الصدق مع أنفسنا، فليس فيه إنصاف، وإذا كانت الحكومة تخطئ وتخطئ، وتمعن في الخطأ، إلا أنها تصيب أيضا، بل تصنع خيرا عميما للناس أحيانا، غير أنهم يتلفونه بأيديهم، ويعودون للشكاية منها كما لو كانت المسألة محكومة بالعناد وحده!
كثرة الشكوى ليست أمرا إيجابيا على الإطلاق، وإن كانت لا تعبر عن رضا الشَّاكِين فإنها لا تعبر، بالمثل، عن قدرتهم على خلق حلولٍ لما يعانون منه .. بل تعبر عن عجزهم وقلة حيلتهم، وتلك الكثرة مذمومة لدى حكمائنا بجملتها؛ فالمأثور يقول: لا تكثر الشكوى فيملَّك الناس. والشاعر المهجري "إيليا أبو ماضي" يقول متسائلا باندهاش: أيُّهذا الشَّاكي وما بك داءٌ **** كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟! 
في الشَّطر الأول من البيت الشعري ما يكشف به الشاعر لنا أن بعض الناس قد يشكو من مرضٍ مّا وليس بمريض، وفي الثَّاني يبطِّن الشاعر سخريته المنبنية على الصفة الأولى بسؤال استنكاريٍّ، وليس استفهاميًّا، يمكن صياغته نثريًّا هكذا: كيف سيصير حال هذا الشَّاكي لو أصابه المرض فعليًّا؟!
بأجواء الأديان، ينصح العارفون الرَّاسخون عباد الله بأن يقصروا شكاواهم على ربِّهم تعالى؛ فلا يتوسَّعون فيها مع إخوتهم لكي لا تنمو أسبابها، على عكس تصورهم، وفي القرآن الكريم إشارة لطيفة إلى ذلك المعنى المهم الذي يحِدُّ من فتح أبواب الجحيم إذا أصرَّ الناس على نشر ثقافة الشكوى فيما بينهم: قل إنَّما أشكو بثِّي وحزني إلى الله. والملاحظ أن الكتاب العزيز استخدم أداة الحصر "إنَّما" المركَّبة من (إنَّ) و (ما) الكافة الزائدة التي تمنعها من العمل، ويفيد هذا الأسلوب التوكيد.
لا ينفي هذا كلُّه أن الشكوى، ومعناها تبليغ ما يُشتكى منه، لا تكون سلبية إذا كان صاحبها "شاكيًا" وليس "شكَّاء"، أعني لو لم يكن مبالغا في شكواه، وإذا كانت
الشكوى في محلِّها المضبوط، وبديلًا عن ارتكاب عملٍ انتقاميٍّ في حقِّ المشكو منه، وإذا كانت تنفيسية طبعا، أي تفريغًا لطاقة مؤذية وامتصاصًا لغضب عارم.
ما عدا ذلك؛ فإن الشكاية التي تعني استحضار اسمٍ لكيانٍ مّا، في الأماكن التي للكلام، ووضعه وسط جماعة لا شُغْل لها إلا رفع الدعاوى على الآخرين وإبداء التوجع مما سببوه من الآلام، بأدلة وهمية، ثم الشروع في تمزيقه وذم أقواله وأفعاله بالجملة، وانتواء جرجرته إلى المحاكم أو فضحه أمام خلق الله؛ فهذه شكاية مغرضة، وما أكثرها للأسف، كالثرثرة الفارغة بمجالس أهل الضجر!