رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جمال الغيطانى وثق رائحة المحاربين على جبهة القتال

لا يزال الأديب الكبير جمال الغيطانى واحدًا من أهم، إن لم يكن أهم، مَن وثّقوا انتصار السادس من أكتوبر، من خلال عمله مراسلًا حربيًا لجريدة «أخبار اليوم»، منذ عام ١٩٦٩.

فلم يكتفِ الأديب الكبير بنقل ما يراه فى جبهة القتال، الذى بدأ فى الكتابة عنه بعد الحرب بأيام قليلة، بل منذ بداية عمله فى ٦٩، وهو يحلل، بريشة أديب قبل أن يكون صحفيًا، أحوال الناس وحكاياتهم، سواء العسكريون الموجودون على خط النار، أو المدنيون من أهالى القناة. 

فى السطور التالية، وتحت نفس عنوان أول كتبه عن هذه الأيام: «المصريون والحرب»، تختص زوجته السيدة ماجدة الجندى «الدستور» بالكتابة عن مشاركة «الغيطانى» فى حرب أكتوبر، أو قل حربىّ «الاستنزاف» و«أكتوبر» على حد سواء، وهو لا يحمل رشاشًا أو مدفعًا أو قاذف صاروخ، بل يحمل قلمه الذى حفظ أيام الحرب فى قلوب المصريين، كلما قرأوا ما خطه.

 

سجل حياة المدنيين فى مدن القناة

لم يتعامل جمال الغيطانى مع حربى «الاستنزاف» و«أكتوبر ٧٣» باعتباره مجرد صحفى أو مراسل عسكرى، لكن «الكاتب» الذى فى داخله هو الذى جعله ينفذ إلى «الضفيرة الإنسانية»، التى توقف عندها الرئيس جمال عبدالناصر، من خلال تحقيق صحفى منشور على صفحات «الأخبار».

فالكلام فى هذا التحقيق لم يقتصر على السلاح والمعارك، لكنه ربط ما بين الجندى «الإنسان» وسلاحه، بصيغة أقرب لما يقال عنه اليوم «القصة» أو «Story».

لم يكن عُمر جمال الغيطانى قد تجاوز الثالثة أو الرابعة والعشرين فى ١٩٦٨، عندما اتخذ مدن القناة والجبهة الشرقية شبه مستقر وإقامة، يقطعها بعودات سريعة إلى القاهرة.

عاش وتعايش، ونقل إلى عشرات بل مئات الصفحات على «أخبار اليوم» دقائق وتفاصيل، عندما تعود إليها قارئًا ترى وتحس وتسمع وتشم رائحة الرجال المقاتلين، وتستشف توقهم لحرب يستعيدون بها الحياة، وتتيح للقادمين من بعد ما يشبه التوثيق.

وثق «الغيطانى» ليس فقط معارك الرجال، لكن إقامته الممتدة فى مدن القناة مكنته من تسجيل حيوات الفلاحين وبعض أسر المدنيين، الذين لم يقبلوا التهجير، واستمروا فى الزراعة وتربية الحيوانات، والعمل والتزاوج تحت القصف.

وكان البُعد الأعمق هو رصد «الغيطانى» العلاقات والوشائج العميقة واللُحمة الحية التى ربطت ما بين المقاتلين وتلك الأسر الفلاحية البسيطة، ومن خلال هذا المنظور، قدّم «الغيطانى» صفحات كتابه الموثق «المصريون والحرب»، الذى صدر ولا يزال عمره ٢٩ عامًا.

الكتاب أجاب عن الكثير من الأسئلة حول طبيعة العلاقة بين المصريين كأمة موغلة فى القدم وجيشهم، منذ أن كانت مصر قبائل، وقبل أن يوحدها الملك مينا، وصولًا إلى حرب أكتوبر، ليكتشف ذلك البُعد القصى الذى يجعل تلك العلاقة متفردة، كما يكشف عن الدور الحضارى لجيش لم يخرج يومًا غازيًا، وكانت مهمته منذ نشأ هى حماية المنجز الحضارى لهذه الأرض.

وتحدث عن المعارك التى خاضها الإنسان المصرى عبر مراحل التاريخ، وكيف كشفت عن آلياته لاستيعاب الهجمة، ثم الوثب باتجاه تحقيق النصر، ذلك المصرى صاحب أقدم مجتمع مستقر، الذى اقتضى موقعه الجغرافى وجوبية الصراع، ما حدا بـ«أرنولد توينبى» القول إن «الحضارة المصرية بُنيت بقتال.. روض المصرى النهر والطبيعة وتولى جيشه حماية المنجز».

 

سأل فلاح: «إيه اللى جابك وسط القصف» قال: «جاى أأكل الحمام» 

أشار كتاب «المصريون والحرب» إلى وثائق الدولة القديمة «٣٢٠٠ قبل الميلاد»، ودور العسكريين، وكيف كان التجنيد يشمل كل أبناء البلاد دونما تمييز، وكيف طوّر العسكريون أدوات الجيش، وكانوا أول من استخدموا أساليب التمويه، منذ الغارات المتقطعة للقبائل السامية المتجولة بحثًا عن القوت والمرعى، وهجمات البدو، حتى حرب ٧٣.

وشرح أيضًا كيف يعلو الإنسان المصرى لحظة الشعور بالخطر، والصورة القادمة من التاريخ لجيش يدافع ولا يغزو، وهبة الشعب المصرى منذ الملك بيبى، التى لا تختلف عما نعيشه وعشناه.. يشرح كيف تطوع الفلاحون من القرى والنوبيون وسكان الواحات فى الجيش، وكيف تشكلت الشخصية المصرية فى مواجهة الخطر.

فى كتاب «المصريون والحرب» سافر إلى أغوار التاريخ، قديمه والواقع المعاش.. الفلاح الذى بنى حائط الصواريخ، الذى يقطع أشجار الزيتون ليغطى الدبابات، الذى يُطعم الحمام فى أبراجه ما بين فترات القصف: «صباح اليوم فوجئنا بفلاح اسمه إبراهيم أبوالعطا، من أهالى القرية، كان يحمل طبقًا من الفخار، قلنا له ماذا جاء بك يا إبراهيم؟ فأشار إلى أحد أبراج الحمام، قائلًا: (أنا جاى أأكِل الحمام)».

تفاصيل سقوط أول طائرة «فانتوم» فى ٣٠ يونيو، التى احتفظ «الغيطانى»، بجزء منها واستخدمه «تقالة ورق» على مكتبه.. وأفراد وأسماء ووجوه حقيقية حكى عنهم ولهم.

فى آخر جزء من الكتاب مقاطع من خطابات بعض المجندين لأهاليهم. يكتب أحدهم لجار أو صديق: «علمت اليوم أنكم اتصلتم بأمى وسألتموها عما إذا كانت تحتاج شيئًا، وقلتم لها كل سنة وأنتِ طيبة بمناسبة عيد الفطر، فقالت إن العيد الكبير هو يوم النصر، يوم يعود الولاد، سواء كنت أنا بينهم أو كنت فى عِداد الشهداء، لا شىء يعز على مصر»، ثم يختم المقاتل جوابه بجملة واحدة: «مجّدوا معى مصر».

هذا الكتاب مجرد جزء من كم هائل من تحقيقات «الغيطانى» الحية عن حربىّ «الاستنزاف» و«أكتوبر»، لكننى أدين له بكثير من المحبة والمعزة، وبعمر أكرمنى الله خلاله أن أكون فى معيته.. وتلك حكاية بدأت مع حرب أكتوبر.

 

جهزت موضوعًا عن «جوابات المقاتلين».. فسبقنى إليه فى «أخبار اليوم»

أرسل الأستاذ الكبير رءوف توفيق- طيب الله زمانه- فى طلبى. كان وقتها مديرًا لتحرير مجلة «صباح الخير»، لكن الأهم أنه كان الأستاذ لجيل الوسط كله، الذى كنت محظوظة بالانتساب إليه منذ أوائل ١٩٧٢، ولم يزد عدده على ٦ أو ٧.

هذا الجيل هو الذى تلى الجيل المؤسس للمطبوعة المتفردة التى ولدت فى ١٧ يناير ١٩٥٦، لتترجم الرؤية الجديدة للحياة الاجتماعية والشخصية المصرية، بشعار صاغه برشاقة فكرية الأستاذ أحمد بهاء الدين: «للعقول الشابة والقلوب المتحررة».

لم يكن قد مر على انتصار أكتوبر إلا ٤ أو ٥ أشهر، و«صباح الخير» ككل مطبوعات الفترة، بوصلتها المهنية مضبوطة على كل ثنايا وتفاصيل ذلك الميلاد الجديد لبلد «يرفع رأسه».

أرسل الأستاذ رءوف طلبه مع «عم حسين» شخصيًا، وهو ليس أى «مرسال»! كان «عم حسين» واحدًا ممن حظى بالوجود فى المكان من أيام «الأستاذ إحسان»، وفى جرابه تكمن التفاصيل دومًا.

هذه التفاصيل تبدأ بآرائه فى ناس المكان، الذى كان جزءًًا منهم، وشغلهم، وأيضًا خباياهم يفرج عن جزئياتها فى توقيتات لا تخلو من دلالة!.. دقيق القد، له وجه قادر على أن يطوعه وفق الحالة، وأبرز ما فيه عيناه، اللتان تنطبق إحداهما كلما بدا ما جاء بشأنه «أمرًا جللًا».

قال بلكنة ما زالت غير قاهرية بالمرة: «الأستاذ رءوف عاوزك».. ٣ كلمات ليست هى الدالة، لكن الذى عليك أن تستقرئه هو «الإيقاع» الذى يلقى بهِ كلماته، النبرة وقماشة الصوت، التى من خلالها يمكن أن تستشرف: إما تأخرت فى تسليم «شغل»، أو أن «تكليفًا» فى الطريق، أو «الشر بره وبعيد» فى انتظارك لوم، بسبب خلل فى موضوع صحفى قدمته، أو أنك نسيت النقط والهمزات وغيرها من علامات الترقيم، أو حتى إنه غير مكتمل، وهذا أمر يفيض شرحه!

طرقت الباب، رفع الأستاذ «رءوف» رأسه، وفى لمحة حاولت استقراء القادم.. شبح ابتسامة تكتم ضحكة نادرة الظهور، ثم بادرنى:

«صديقك اللدود» جاى دلوقت، تعالى سلمى عليه.

عكست كلمتا «صديقك» و«اللدود» ملخصًا أو تاريخًا من الغضب المهنى عمره شهور، غضب من جانبى، لأن زميلًا لا أعرفه ولم ألتقه أبدًا فى مؤسسة «أخبار اليوم»، تسبب فى وأد ما كنت أعده فى ذلك العمر، ولم أكن قد تجاوزت العشرين «فتحًا مهنيًا»!

وفى نفس الوقت حملت الكلمات استشرافًا، لما لم يتوقعه لكن صار حقيقة، لم يكن صديقًا ولا أعرف حتى شكله، لكنه سيصبح الزوج والونس والعمر والصفو والصفح والمتكأ والامتلاء والرضا والصحبة الآمنة والمودة.

كان هذا الزميل هو جمال الغيطانى، الذى سيشرب القهوة مع صديقه رءوف توفيق، وجاء إلى مؤسسة «روز اليوسف» لمراجعة كتابه الذى سيصدر أول مارس ١٩٧٤، عن سلسلة: «كتاب روز اليوسف»، التى كان يشرف عليها فى ذلك الوقت الأستاذ فهمى حسين، تحت قيادة للمؤسسة من قبل الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى.. هذا الكتاب هو: «المصريون والحرب».

فماذا حدث قبلها؟ ولماذا وصفه بـ«اللدود»؟

بطبيعة الحال كانت «المهنة» جزءًا من كل ما تعيشه مصر، التى انصهرت وصارت «الكل فى واحد». وربما لا يكون من السهل أن تحقق المعادلة الصحفية المطلوبة فى مطبوعة متفردة كمجلة «صباح الخير».

فهناك أنت مطالب بأن تعثر كل أسبوع على فكرة غير متكررة قابلة للتحقيق، مع تحقيق شرط المطبوعة الأولى وهو: «متعة القراءة»، مع التركيز على جوانب تبدو فى ظاهرها اجتماعية رشيقة، لكنها- وهذا مهم- تعالج السياسة والاقتصاد كما تعالج الحب والحرية.

المهم لأيام طويلة رحت أبحث وأفتش عن «أسر الرجال اللى على الجبهة». كان الأمر أقرب إلى توثيق حياة هذه الأسر. أولاد من على الجبهة، زوجاتهم وحبيباتهم وخطيباتهم، وأمهاتهم وآبائهم، إلى أن قررت إفراد حلقة مستقلة عن «جوابات» المقاتلين المرسلة إلى ذويهم.

كانت حلقة أشبه بـ«غزل الدانتيلا»، ليس فيما كتبته، لكن فيما ارتشفته واكتشفته وعشته فى العبارات الموجزة أحيانًا والمطولة نادرًا فى خطابات الرجال.

لا أذكر أنى قد اعترتنى، عبر ٥٠ عامًا من الكتابة، ما شملنى تلك الأيام من ارتجافات ودموع وتوق مشبوب للحياة، سرى إلىّ من تلك الأوراق والقصاصات، التى لم يمكن أن أحملها معى لأقرأها على مهل، فكنت ألازم بيت المقاتل لساعات يحكمها حجم ما يتاح لى قراءته.

هناك لحظات من الفرح المهنى أشبه بـ«رفع الأعلام».. عندما انتهيت من كتابة الموضوع عدت إلى المجلة، بإحساس من يحمل «غنيمة».

رءوف توفيق ليس مجرد صحفى، لكنه فنان وكاتب ورجل اجتماع وسياسى من وسط الناس، و«جواهرجى مشاعر»، كل ذلك فى عباءة صحفى.. كنت أكاد أتيقن من الطريقة التى سيتلقى بها هذا الموضوع.

لن يعلق.. سوف يقرؤه قبل أن أغادر مكتبه. بعدها يغلبه الابتسام ليقول: «طيب الأسبوع الجاى فى إيه عندك؟»، ثم إضافة تمتمة خافتة- لا يعلو صوته أبدا-: «فرد الموضوع على رقم غير متوقع من الصفحات».. فى داخلى كان الشعور «البكر»: أى مجد فى الانتظار!

كان موعد تسليم الشغل يومى الثلاثاء أو الأربعاء على الأكثر، لتكون «صباح الخير» فى الأسواق يوم الثلاثاء التالى.. من يوم تسليم الموضوع إلى صباح السبت، عشت الانتظار «اللذيذ»، حتى «وقعت الواقعة».. الكارثة التى وقتها رأيت فيها- بأعوامى العشرينية- نهاية العالم!...

«خطابات المجندين».. نفس الفكرة.. يا للهول!.. موضوع مفرود على صفحتين فى «أخبار اليوم».. ماذا جرى لى وقتها وأنا «أبحلق» فاردة جورنال «أخبار اليوم» على المكتب الإيديال الرمادى، وودانى بتوش، كما كانت تقول أمى- الله يرحمها-: «مالك قاعد كده زى اللى غرق دراه».

أنا مش بس غرقت الذرة بتاعتى، ده أنا اللى غرقت واندبحت بفعل فاعل عمرى ما أخدت بالى من اسمه... «جمال الغيطانى»، ذلك الاسم الذى ظل يطاردنى بعد أكتوبر بشهرين وكأنه «مستقصدنى»، مع أنى لا شفته ولا عرفته.

 

سافرت إلى السويس للقاء أبطال «سيناء العربية».. فقالولى: «فين إذن الغيطانى؟!»

بعد ١٠٠ يوم من صمود السويس، تم فتح الطريق.. كانت تفاصيل الصمود الأسطورى للمدينة الرمز دافعًا للبحث عنهم. قطعت الكيلو مترات الفاصلة ما بين القاهرة والسويس، فى بكور شتوى بارد، داخل «ميكروباص» المؤسسة، الذى لم يكن يخرج بالمحور إلا للشديد القوى.

كنت أحاول استحضار ملامح تلك الوجوه بخيالى.. وجوه أعضاء منظمة «سيناء العربية»، الذين تنامى إلينا إسهامهم ودورهم فى إنقاذ السويس، وبدأ دورهم منذ «حرب الاستنزاف»، بعد أن شكلوا منظمتهم من عمال مصانع السويس.

من هم ومن أين أتوا وماذا فعلوا؟ كيف كانت «طلعاتهم» خلف خطوط العدو؟.... سأكتب الحكاية وأفك الرموز وأروى على صفحات «صباح الخير»... طول الطريق كنت مشغولة بمن سألتقيهم، وبخفة عمرى وقلبى وقتها، لم أكن لأصدق أنى سوف ألتقيهم فعلًا.

فعلًا وصلت لهم فدثرونى بمودة إنسانية جارفة، وشربنا شاى وأكلنا عيش وملح، ولما آن أوان الكلام كان اعتذارهم.. تصور وزن الموقف.. أقطع المشوار إلى السويس وألتقيهم ويضيفونى ثم يعتذرون. كان قرارهم لا رجعة فيه: «أهلًا بيكى وألف مرحب لكن بلا كلام للصحافة!».

مارست كل محاولات «التحنين» الممكنة، بدءًا من قطع الوعود حتى الاستعطاف، لكن كل محاولاتى باءت بالفشل!.. كيف أقطع كل هذا الطريق وأعود خالية الوفاض؟ كيف أعود بفشلى المهنى وأنقله إلى رءوف توفيق؟ ولماذا؟.. بدا لى القرار الذى لم أستطع هضمه كحائط منيع.

أما لماذا؟ فالسبب كان أن مجموعة «سيناء العربية»، وبحكم منشأهم الذى ظل أقرب إلى السر لسنوات، قد اتخذت قرارًا حاسمًا وقاطعًا بعدم التواصل مع الصحفيين، إلا عبر تفويض أو تزكية أو تعضيد صريح من الكاتب والصحفى الوحيد الذى عاش بينهم، ووثقوا به وصار واحدًا منهم، فهو «الأمين على الحكاية».

أوصانى عم أحمد العطيفى، وعم قناوى، وعم محمود، أن أعود أولًا إلى «جمال الغيطانى»!.... تانى؟!!.. تانى جمال الغيطانى؟!!