رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حديقة الأسماك

أى عاقل يتابع ما يجرى فى مصر لا بد أن يفرق بين أمرين، الأمر الأول ما دأب عليه فلول الإخوان والفوضويون من تسفيه كل جهود التنمية، والتقليل منها، والتشكيك فى نتائجها، وهذا تقوم به لجان إلكترونية، أو متمولون من دول أجنبية، أو كوادر فى الجماعة، وهؤلاء لا شأن لنا بهم، كلامهم رخيص، ومعارضتهم مدفوعة، وآراؤهم لا تساوى ثمن الحبر الذى كتبت به، ولا هم منا، ولا نحن منهم.. وتبدو معارضة هؤلاء لأمر يخص تاريخ القاهرة، ومعمارها، وتراثها أمرًا مضحكًا فى حد ذاته، فهم أعداء الحداثة التى أنتجت القاهرة الأوروبية، وهم أعداء الآثار الفرعونية كفكرة وكحضارة، وهم فى عمقهم الفكرى أتباع البداوة والترييف، وبالتالى فحديثهم عن شأن يخصنا فى الداخل، أو يخص تراثنا أمر مرفوض شكلًا وموضوعًا.. أما الفريق الثانى فهم نفر من مثقفينا يزعجهم ما يسمعون من أخبار عن إزالة أشجار فى طريق ما.. أو المساس بحرم أثر هنا أو هناك أثناء عمليات التطوير.. أو تغيير طابع بعض أحياء القاهرة الأوروبية مثل المعادى أو مصر الجديدة.. وهؤلاء نحترم آراءهم، ونقدر قلقهم مادام خالصًا لوجه البلد، ومنزهًا عن الهوى السياسى، أو المعارضة لمجرد المعارضة، أو البحث عن دور.. وأنا شخصيًا أشارك بعض كبار مثقفينا القلق على تراثنا المعمارى والحضارى لكننى أرى أن هناك غيابًا للمعلومات لدى الذين يعترضون وهو ما يؤدى لنوع من المبالغة والتهويل والمخاوف المشروعة أحيانًا وغير المشروعة أحيانًا.. وأنا شخصيًا لدىّ اهتمام بما أثير عن تطوير حديقة الميريلاند، وقد أتاحت لى الظروف أن أسأل النائبة الفاضلة التى تقدمت بطلب إحاطة حول الموضوع، لكننى للأسف أدركت أنها لم تذهب للحديقة!، وليس لديها معلومات تفصيلية عن طبيعة المشروع، وأنها اعتمدت على بيان أصدرته إحدى الجمعيات الأهلية فى مصر الجديدة!، ونفس الأمر تقريبًا ينطبق على ما حدث فى قضية تطوير حديقة الأسماك حيث تابعت مداخلتين تليفونيتين للدكتور مصطفى وزيرى، رئيس قطاع الآثار، مساء السبت مع الزميل د. محمد الباز، والإعلامى عمرو أديب، وقد وضح الرجل حقيقة ما يحدث فى الحديقة، لكننى أرى أن توضيحه جاء متأخرًا ٤٨ ساعة على الأقل، هذا التأخير أدى لظهور شائعات، وخلط للحقائق، وأثار مخاوف، والحقيقة أن بيان الآثار يجب أن يكون استباقيًا، وأن يعلن ما يحدث بوضوح.. إننا سنطور حديقة كذا لأسباب كذا، وأن ما سيحدث هو كذا وكذا.. نفس الأمر بالنسبة لحديقة الميريلاند التى أدعو إدارتها لإصدار بيان يشرح حقيقة التطوير وخطواته ويضع الأمر فى نصابه الحقيقى.. من جهة ثانية أدعو الكتاب والمثقفين الذين يعربون عن قلقهم للبحث عن المعلومة والمطالبة بها أولًا.. ثم بناء الموقف بناءً على المعلومة.. وأنا شخصيًا أدرك أن التطوير سنة الحياة وأن هناك استراتيجية عامة لتطوير القاهرة القديمة، وتعظيم قيمة أصولها، وزيادة فرصها الاستثمارية، لكن المعيار فى نجاح الاستراتيجية هو التنفيذ.. رؤية الدولة نفسها عظيمة، لكننا نريد تنفيذها بأيدٍ ماهرة، تنجح فى تحويلها لواقع، ولا تسىء لها أثناء التنفيذ.. فالمطاعم فى حديقة الأسماك يجب أن يكون لها طراز معمارى يراعى البيئة المحيطة.. وعلى سبيل المثال فإن حديقة الأزهر بها مبنى كامل للمطاعم.. وبها أيضًا جزء خاص للسيارات، رغم أنها منفذة تحت إشراف مؤسسة أغاخان العالمية، ولكن طريقة تنفيذ هذه المرافق راعت الطراز المعمارى للحديقة فأصبحت إضافة لها.. ونحن نطلب هذا فى التطوير الجارى لحدائق القاهرة التاريخية، والتى تحولت فعلًا لأماكن مغلقة معظم أيام العام، بل أنا أطالب بتطوير باقى الحدائق التاريخية ولكن وفق نسق معمارى معين، يحافظ على الأشجار التاريخية ويضيف مرافق تراعى الطراز المعمارى.. ولا يختلف موضوع تطوير الحدائق عن تطوير القاهرة التاريخية، وبعضها يمر بجوار مقابر تاريخية.. كانت تحيطها الصحراء حين بناها أجدادنا.. لكنها مع الامتداد العمرانى أصبحت فى قلب العمران والزحام، ومنذ عامين ثارت ضجة كبيرة نتيجة إزالة مقابر معدودة فى طريق صلاح سالم، رغم أن المحور الذى تم إنشاؤه أكثر من رائع، وحل مشكلة ملايين المصريين، ورغم أن الحى أبقى من الميت كما يقول المثل، إلا أن جهة التنفيذ أخطأت، لأنها باغتت أصحاب المقابر المطلوب إزالتها، وهو ما أحدث رد فعل عكسيًا، استخدم فى تشويه مشروع عظيم، والمطلوب عدم تكرار ما حدث، والتواصل مع أصحاب المقابر المطلوب إزالتها قبلها بفترة كافية، وإمهالهم فرصة لتدبير أنفسهم، خاصة أن الدولة تدفع للجميع تعويضات سخية، وبسعر السوق، أيًا كان العقار المطلوب نزع ملكيته للنفع العام.. وما أريد أن أقوله إن استراتيجية التطوير عظيمة وآثارها ماثلة على الأرض، وهى محل إشادة دولية وعربية ومصرية أيضًا.. ولكننا لا نريد أن نفسد الطبخة من أجل ذرة ملح. ولا أن نمنح الفرصة لمن يريدون إفساد فرحة الناس بالإنجاز، ولا لأولئك الذين لم يجدوا فى الورد عيبًا فوصفوه بأنه أحمر الخدين.. يجب أن نبادر بالمعلومة والتوضيح والمهارة فى التطوير أيضًا.. أو هكذا أظن والله أعلى وأعلم.