رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأستاذ المهزار بـ«النكد»

 

عدت بذاكرتى لكتاب علمى لم يسقط من ذاكرتى، رغم مرور ما يقرب من عشرين عامًا على قراءتى له. 

الكتاب المترجم كان يحمل عنوان «تنكيد المعنويات»، وكما يبدو من العنوان هو محاولة علمية متعددة السبل لبحث ما يُحدثه «النكد» فى الإنسان عضويًا وكيميائيًا، وليس المقصود بتعبير «التنكيد» مجرد الزعل العابر، ولكن «الكمد» الذى يتعرض له الإنسان بفعل فاعل ويكتمه لعدم القدرة على الرد.. 

يمكن إدراج الكتاب فى خانة الكتب الطبية متعددة الزوايا؛ لأنه فى النهاية يدخلنا إلى المتغيرات الكيميائية للجسد الإنسانى الذى تعتريه حين تعرضه لألوان من التنكيد، يعنى الموظف المرءوس الذى تضعه الظروف تحت قبضة رئيس لا يراعى القواعد الوظيفية، ويستبيح المرءوس لفظيًا وعمليًا، الزوجة التى لا تجد سبيلًا غير الاستمرار فى علاقة قهرية لا تستطيع الفكاك منها لأى سبب، الذين تعرضوا لفقد كبير بالموت.. كل هذه النماذج وغيرها تم إخضاعها لفحوص وتحاليل وقياسات من قبل متخصصين.. على سبيل المثال كانت هناك حالة لزوج فقد رفيقة عمره بعد عشرة عقود، ولم تظهر عليه أعراض غير عادية، كل ما هنالك أن علاقته بمن حوله وما حوله قد أصابها الفتور، وحالة موظف مرءوس استسلم لتمادى رئيسه فى إهانته خوفًا من أن يفقد عمله.. المهم أنهم قرروا دراسة حالة الجهاز المناعى واختبار القدرة المناعية لديهما بالمقارنة لحالة واحد تعرض مباشرة لإشعاع انفجار المفاعل تشيرنوبيل.. المفاجأة جاءت فى أن التغيرات التى لحقت بحالة التعرض المباشر للإشعاع النووى لانفجار تشيرنوبيل كانت أخف وطأة مما جرى لحالتىّ الموظف المقهور والزوج المكلوم.. بفحص دماء العينة، موضوع البحث، كان أخطرها ما جرى للموظف الذى انهار جهازه المناعى، وخريطة مكونات دمه باختصار ترجمة للتعبير الدارج: «اتحرق دمه».. حرق الدم ما هو إلا التغييرات الكيميائية التى تحدث فى تركيب عناصر عديدة داخل الجسم الإنسانى، ومنها الدم، تحت وطأة الضغط الذى لا يكون فى المقدور دفعه.. استحضرت هذا الكتاب وأنا أفكر فى الممرض الذى أرغمه دكتور وأستاذ ورئيس قسم على «نط الحبل»، وتحية كلبه والسجود له، ونَعَت أهالى بلدة الممرض بما لا يمكننى كتابته- احترامًا للقارئ والمطبوعة- قال الممرض، الذى يبدو طوال الفيديو ضاحكًا، إنه كان يمتثل للحفاظ على لقمة العيش، اللقمة «المرة»، إن لم تكن المسمومة، التى تدخل جوف البنى آدم «مغموسة» بالقهر الإنسانى.. القهر الذى عكسه الممرض دون أن ينبس بكلمة، قهره أمام نظرات أبنائه التى يسقط أمامها نموذج الحماية والأمن، قهره أمام نفسه الممتهنة العاجزة فى مقابل القسوة المريضة، والتجاوز، التجاوز الفظّ والإنسانى معًا.. فالقسوة التى هى إنزال الأذى والضرر بأفعال تسبب الألم من شرور الإنسانية، ويُعرّفها قاموس «أكسفورد» ببساطة بأنها إنزال الأذى والوجع بالإنسان والابتهاج بذلك مع لا مبالاة بآلام وتعاسة الآخرين.. وهذا ما رأيناه فى فعل الأستاذ ورئيس القسم الذى قال: «كنا بنهزر».. الابتهاج مع قسوة الفعل وبقسوة الفعل، والاستمتاع بوجع الآخرين، هذا ما رأيناه مع الطبيب «المهزار»!! وهو أمر لا يستحق العقاب وحده، لكنه يشير إلى الحاجة إلى «علاج».. دراسة دوافع فعل الأستاذ ورئيس القسم التى شاهدناها، وفحصه، مسألة مهمة، ولا تقل أهمية عن فكرة العقاب.. الحقيقة أن «فيديو الطبيب والممرض» يطرح أمورًا تخص المنطق الحاكم لعلاقة رئيس العمل ومرءوسيه، وهذه أبسط الأمور، وما ينتج عن هذه العلاقة حالة تجاوزت الأُطر المتعارف عليها قانونًا وعرفًا.. كيف يدرأ الإنسان القسوة المتجاوزة والتى يكون الإيذاء فيها أحيانًا أشبه بنزعة قهرية تؤذى إلى حد الجرم؟ الموضوع الآن بين أيدى الجهات القضائية التى نحترمها، لكن هذا لا يمنع من أن نفكر فى بعض أوضاعنا المنقلبة.. فى أن نتعلم أن هناك أطرًا لا نسمح بتجاوزها ولا نرتضى أن تدك إنسانيتنا.. الدولة لا تضع أحدًا فوق القانون، لكن هذا ليس كل شىء، ربما الأصعب أن نعى ونعمل على نشر فكرة الحق المعنوى والأخلاقى الذى تحميه مبادئ الجماعة أو المجتمع.. القانون يحتاج إلى الدليل المادى، كيف أُثبت أن رئيسى فى العمل يزدرينى، يتعمد الإهانة دونما حاجة لاستخدام ألفاظ؟ وهذا وارد، وعلى ما أتذكر أنه يحتل جزءًا فى الكتاب الذى أشرت له فى البداية.. لا بد وأن يؤسس المجتمع فى كل مؤسساته التعليمية والوظيفية لمبدأ حفظ الكرامة.. أنا موظفة أخطأت، عندك لائحة إدارية حاسبنى بها، أنا تلميذ لم ألتزم، دونما أى تلفظ ولا تجاوز طَبِّق القاعدة، أنا أقوم بعمل خدمى فى مؤسسة، أعطل شغلك، لا تنطق ولا تتصرف بمنطق «إنت مش عارف أنا مين»، اكتب شكوى.

هناك مبادئ أخلاقية تحكم المجتمعات، وهناك مبادئ قانونية، الحمد لله أن النيابة العامة قد اتخذت إجراءاتها فى هذه القضية، لكن المبادئ الأخلاقية الحاكمة فيما بيننا لم تعد بقدر المتانة المطلوبة ولا عادت بقادرة على الردع، وصار التجاوز والاستقواء، ربما غير السوى فى معظم الأحيان، سمتًا فى ممارسات عدة، حتى لم نعد نستطيع اللحاق بالرصد.. قبل أيام شاهدت فيديو على محطة تليفزيونية لممثل ومغن فى محطة بنزين، خرج من سيارته الفارهة «ورزع» شابًا أمام أمه قلمًا على وجهه، لأن الممثل كان يرجع بسيارته إلى الوراء، وكادت أن تصطدم بالشاب الذى علا صوته: «مش تخلى بالك»؟ وليه وليه؟.. نزل الممثل وعمل عملته، وكلمة من هنا وكلمة من هناك خلص الموضوع.. بماذا أحس الشاب وأمه و«الشهرة الفارغة» تتحول إلى طغيان وقهر وسلب للكرامة الإنسانية، لم يستطيعا دفعها؟ خلص الموضوع وقتيًا، لكن فعليًا لا. حالة «السيولة المجتمعية» لا يكفى معها القانون الذى هو ضرورى وحتمى، لكن تحتاج لوعى عام مشارك لا يسمح لا بنموذج «الأستاذ المهزار» الذى فى حقيقة الأمر حالته بحاجة لتأمل متعدد الأبعاد، ولا تكرار الاضطرار تحت وطأة الشعور بالضعف إلى اللقمة المغموسة بالقهر!