رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الانتحار الذى ينزل من الصنبور!

فى منتصف الثمانينيات بالغت وسائل الإعلام المصرية فى الحديث عن خطر المخدرات على الشباب، استرعت تلك المبالغة نظر الأديب الكبير يوسف إدريس فكتب يقول «إننى أخشى أن أفتح صنبور المياه فى بيتى فتنسال منه المخدرات»! كان التعبير الساخر ليوسف إدريس احتجاجًا منه على المبالغة فى تصوير ظاهرة موجودة بالفعل.. والحقيقة أننى أشعر بالحاجة لاستعارة تعبير أديبنا الكبير احتجاجًا على مبالغة وسائل الإعلام فى تغطية حوادث الانتحار فى مصر.. الانتحار بطبيعته حادث مأسوى.. يهدف منه صاحبه إلى إنهاء ألمه أحيانًا، وإلى لفت نظر الناس لذلك الألم الذى تحمله فى أحيان أخرى.. من هنا يكون اختيار بعض المنتحرين طريقة انتحار لافتة للنظر.. مثل الانتحار من فوق برج القاهرة.. أو كوبرى قصر النيل.. أو فى مول تجارى شهير كما كانت حادثة الانتحار الأخيرة والمؤسفة.. لكن كل هذه العوامل لا يجب أن تجعلنا نبالغ فى تغطية الحوادث الفردية حينًا، أو فى تحميلها مضامين لا تحتملها حينًا آخر، وكأننا فى سعينا لملء حالة الفراغ الإعلامى كمن يأكل من لحم جسده ليسد جوعه، أو كمن يقطع أذنه اليمنى مثلًا كى يحظى بحدث مثير يتحدث عنه فترة من الوقت!.. وحسب بيانات منظمة الصحة فالانتحار ظاهرة عالمية، ويتراوح عدد المنتحرين سنويًا بين ٧٠٠ و٨٠٠ ألف منتحر، بمعدل حالة انتحار فى العالم كل٤٠ ثانية، وهو يشمل الفقراء والأغنياء، وإن كانت المنظمة تسجل أن ٧٧٪ من الحالات فى دول فقيرة ومتوسطة الدخل.. وهذا طبيعى لأن عدد سكان هذه الدول أكبر من حيث التعداد، ومن نافلة القول إن معدلات الانتحار تزيد فى دول إسكندنافيا، وهى أكثر الدول رفاهة فى العالم، ربما بسبب غياب التحديات التى تجعل للحياة معنى، أو بسبب غياب ضوء الشمس، أو شيوع الاكتئاب أو لأى أسباب أخرى.. ما أريد أن أقوله إن الانتحار ظاهرة معقدة، يتداخل فيها الفقر والغنى، والتقدم، والتخلف، والحرية والكبت، والإشباع، والحرمان، وأن العامل الأساسى فيها ربما يكون هو الاستعداد النفسى، وبحسب إحصاءات الصحة العالمية أيضًا فإن عدد حالات الانتحار فى مصر يقترب من ٣٧٩٩ حالة كل عام، بمعدل تحتل فيه مصر المرتبة الأولى عربيًا، ورغم أن الرقم محل شك، إلا أن له ما يبرره، حيث يبلغ عدد سكان مصر مائة مليون نسمة، وهى أكبر الدول العربية من ناحية السكان، لذلك فمن المنطقى أن يكون عدد الحالات فيها أكبر، وإن كانت النسبة لعدد السكان قد تكون أقل، لكن هذا الرقم نفسه محل شك، وهو يختلف تمامًا عن الأرقام التى يذكرها تقرير البنك الدولى عن مصر، وهى الأرقام التى استند لها مجلس الوزراء عام ٢٠١٩، حين أصدر بيانًا ينفى فيه الشائعات التى رأى أنها تحيط بحوادث الانتحار فى مصر.. إن ما لا ينتبه له الكثيرون هو أن الانتحار نتيجة طبيعية لمرض الاكتئاب، وهو مرض مزمن، يسميه البعض سرطان الروح، ويصاب به ٢٪ من سكان الكرة الأرضية، حوالى ٣٠٠ مليون شخص، هذا المرض الذى يشبه فى خطورته مرض السرطان، قد يتعايش معه البعض ويحوله إلى مرض صديق مثل السكر والضغط، وقد يعجز البعض عن التعايش معه فيتحول إلى مرض قاتل، يقود إلى الانتحار، أو العجز عن العمل والتواصل... إلخ، ومثلما يحدث فى مرض خطير مثل السرطان فقد يكتب الله السلامة للبعض وقد لا يكتبها للبعض الآخر، ولو طبقنا الإحصاءات العالمية على مصر فإن عدد مرضى الاكتئاب قد يتراوح حول رقم الـ٢ مليون (٢٪)، وبالتالى فإن الرقم الإجمالى للمنتحرين لا يبدو غريبًا أو مبالغًا فيه بالقياس للنسب العالمية، ولا شك أن الظروف العامة تلعب دورًا فى الإصابة بالاكتئاب إذا كان لديه الاستعداد لذلك، فالبطالة، وفقد الأحباء، والمعاناة قد تقود للاكتئاب فى بعض الدول، تمامًا كما أن الإيقاع السريع، وضغط المادة، وفقدان التواصل قد تقود له فى الدول الأكثر تقدمًا، وتبقى ملاحظة أقولها من موقع المشارك، وهى أن بعض المواقع الإخبارية تبالغ فى الابتزاز العاطفى للقارئ، وفى نشر المواد الباعثة على الحزن، مثل كلمات كتبها طفل مصاب بالسرطان قبل وفاته، أو منشور لشاب توفى فجأة، أو مقطع مصور التقطته الكاميرا لحادث انتحار، وهى كلها أشياء لا تكشف معلومة، ولا تفيد فى بناء رؤية، ولكنها نوع من اللعب الرخيص على مشاعر التعاطف، بهدف ابتزاز القارئ، وإثارة «الصعبانيات» وهو ما لايفيد القارئ ولا المجتمع فى شىء، ولا يضيف للمعرفة شيئًا، بل إنه يثير الإحباط والحزن فى نفوسنا جميعًا، فى وقت نحتاج فيه للتشبث بالأمل.. لكنها لعنة «الترافيك».. ألا لعنة الله على «الترافيك».