رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حوار بين جيلين «1-3».. صلاح بوسريف يحاور عز الدين بوركة

عز الدين بوركه وصلاح
عز الدين بوركه وصلاح بوسريف

 

عز الدين بوركه  لا أفق لدى الشاعر إلا الشعر الذي لا يستهدف تقديم الحقيقة جاهزة.

تجربة صلاح بوسريف  مؤسسة  في بزوغ قصيدة النثر المغربية  .

 

صلاح بوسريف واحد من أبرز شعراء جيل الثمانينات في المشهد الثقافي والشعري المغربي، قدم على مدار رحلته مع الشعر العديد من الأعمال الشعرية منها “فاكهة الليل 1994”، و"على إثر سماء"، "شجر النوم"، و"نتوءات زرقاء"،و"حامل المرآة"، و"شهوات العاشق" إلى جانب العديد من الكتابابت الفكرية ومنها "المثقف المغربي.. بين رهان المعرفة ورهانات السلطة".

بوسريف حاصل على شهادة الدكتوراة في اللغة العربيّة وآدابها، في موضوع الكتابة في الشعر العربيّ المعاصر، رئيس سابق لاتحاد كتّاب المغرب، فرع الدار البيضاء، عضو مُؤسِّس لـ "بيت الشعر" في المغرب.

في حوار بين جيلين، الشاعر والناقد الأكاديمي المغربي صلاح بوسريف، يحاورالشاعر والناقد التشكيلي الشاب عز الدين بوركة، والذي يعد أحد أبرز الأصوات الشعرية والنقدية الشابة، قدم عبر رحلته  مع الشعرأعمال منها " حزين بسعادة"، و"ولاعة ديوجين".إلى جانب العديد من الدراسات والكتابات النقدية في مجال الفن التشكيلي منها كتابه "الفن التشكيلي في المغرب من البدء إلى الحساسية". 

ـــ ما الذي يعنيه لك الشِّعر وأنت تقرأه أو تكتبه، بأي معنى تعتبر ما تكتبه شعراً، وما الأفق أو الطريف التي تضعها أمامك؟

يصعب أولا الإجابة عن السؤال انطلاقا من تحديد ما الذي ينتمي للمسمى شعر وما لا ينتمي إليه. إذ يكاد يكون الشعر مفهوما ملتبسا وعصيا على الإحاطة والإمساك بتلابيبه وتحديد معانيه، حتى نقدر -بالتالي- على قول أن ما نقرأه أو نكتبه شعرا. لكن هناك المتفق عليه، تلك النصوص القادمة من اللغة المختلفة والتي تلامس الأعماق شعورا وفكرا، فاتحة أبواب تأويل العالم والذات، إذ قد يكون الشعر موجودا في أبسط جمل بين رجل وامرأة أو بين إنسان بسيط وهو يفكر في حاله وسط ضجيج العالم، لكن لا يعني هذا أن الكل بمقدوره كتابة نص شعري، أو قصيدة كما يشاع تسميتها. 

بالنسبة لي حينما يبلغ شاعر مرحلة تسمية ما يكتبه شعرا، ويطمئن لذلك ويسكن حدّ نصه بأريحية فعَليه –إذن- إعادة النظر في ما يكتب وما كتبه، ! لأن الشعر عملية إبداعية تبتغي وجود أزمة لتنبثق من تلك العلاقة المأزومة بين الشخص والعالم أو بينه وبين ذاته، لهذا في مرحلة معينة ترك رامبو كل شيء وذهب صوب المجهول، فقد وجد نفسه أمام أزمة عصية وكبرى وحده عرف معناها!. 

الشعر هو علاجنا من الأزمات، إلى جانب الفن، فأن تكتب لا يعني أن تعيد ترتيب الكلمات في متتالية تدعى جملا بأسلوب ما قد يكتسيه الغموض أو تطبع عليه الرقة، بل أن تكتب يعني أن تكون قادرا على مواجهة الأزمة وأن تحمل إزميلا حادا لتغرسه في رأس العالم وتبتسم عاليا كما يفعل المجانين، فأنت حينذاك لا تبحث عن المعنى بل عن الحقيقة. المعنى مجال ديني أما الحقيقة فمجال الفكر، والشعر يشتغل في المساحة عينها التي تشتغل فيها الفلسفة والفكر، لكن بأساليب بنائية constructive مغايرة وهشة وغير ذات نسق. ما يجعل من الشعر معرفة لا كلاما مسليا مقفى وموزونا.

هذا ما يقودني إلى القول بأن لا أفق لدى الشاعر إلا الشعر، فأن تكتب الشعر يعني أنك مجبول على ركوب الصعاب وامتطاء العقبات وصعود الآفاق كما يفعل سيزيف: بدل أن تحمل الصخرة فأنت تحمل نصوصك، تدحرجها إلى الأفق البعيد. 

ـــ الشِّعر معرفة، بحث، تقصّ، وعمل نواظب عليه بالاستماع إلى دوالِّه، بتأمُّلها والوعي بما تعمل به هذه الدوال من نسيج في النص، اللغة هي دال من دوال الشِّعر، هل ثمَّة ما يدخل في ذائقتك، في وعيك، في فكرك وخيالك من هذا، أم أن الكتابة هي ما يسقط أمامك من كلام، تكتفي بتوضيب، وتسميته وفق ما تراه؟

أشرت إلى نقطة هامة، أن الشعر معرفة وبحث، لا انفصال عندي بين مجال الفكر والفلسفة عن مجال الشعر، كلاهما يشتغلان في الحقل ذاته لكن بآلات وآليات مختلفة؛ إذ لا يبحث الشعر عن كتابة منطقية ولا يستهدف تقديم الحقيقة جاهزة، بل إنه يشتغل بحرية مطلقة في بحر التأويل والتأويل المفرط بتعبير إيكو.. إن الشعر نص مفتوح وليس نصا تعليميا بالمعنى الكلاسيكي، فلا ندرس الشعر لنستخرج الفكرة العامة منه، بل لأن نضعه إزاء ذواتنا والعالم: أن نربك العالم من خلاله، لهذا على الشاعر أن يخلخل العالم أن يحدث صخبا، أن يقول كلمته الأخير عند كل نص.

لا انفصال قلت بين مجال الفكر والشعر، فنحن لا نعيد صياغة اللغة شعرا من أجل إبراز عضلات واهية وفارغة، بل حينما يكتب شاعر نصه، قصيدته، فهو يكتب ذاته أولا ومن ثم وعيه تجاه العالم، يكتب تجربته ومقروئيته (ما قرأه)، أي يكتب استنتاجاته وخلاصاته، وهو عينه ما يقوم به المفكر والفيلسوف، لكن لكل طريقته الخاصة.. وقد أدرك نيتشه هذا الأمر جيدا، لهذا عبّر عن أفكاره بشكل شذري يشبه الشعر لحد كبير.. وقد تأثر بذلك فلاسفة ونقاد كثر في ما بعد أمثال هايدغر وسيوران وبلانشو وغيرهم... ما سيدفع عند مولد ما بعد الحداثة الحديث عن موت التجنيس والأجناس الأدبية، وقد تزامن الأمر مع إعادة إعلان موت الفلسفة، للخروج من النسقية المنغلقة.

الكتابة الشعرية بالتالي، هي كتابة باللغة للمفكر واللامفكر فيه، إنها كتابة الجسد الذي يفكر في العالم وفي نفسه، بشكل واع ولاواع، لهذا يستحيل أن يكون النص الشعري منعزلا عن عالم الفكر؛ كيلاهما ينتميا للغة ومصدرهما الجسد الذي هو مصدر التفكير وقالب اللغة، إنه الجسم اللغوي الحي.

ـــ أنت من الأجيال التي جاءت بعدنا، ما الذي ترى أنَّ هذه الأجيال قدمته من اختراقات في الشعر المغربي والعربي معاً، وما التجارب التي تراها أحدثت طفرة، أو على الأقل انزياحاً على المُتاح، وفي أي نص، كيف، وما الذي أتاحته كطريق؟

لنكن منصفين ونقل بأنه هناك فضل كبير للسابقين على اللاحقين، وتجربة صلاح بوسريف تجربة مؤسسة لانعطاف الشعر المغربي والعربي إلى جانب أسماء أخرى طبعا، هذا الانعطاف الذي حدث في منعرج سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، كان له الفضل الكبير في بزوغ "قصيدة النثر" –ونضع هذه التسمية بين قوسين- كما هي عليه اليوم، وفي ميلاد شعر غير مؤدلج يبحث عن الإنساني الخالص، والخالي من أي تعصب مذهبي سياسي أو عقائدي.. وبالمقابل كان للجيل الذي جاء في ما بعد، جيل أواخر 90 والألفية الجديدة، كلمته التي تؤسس للقادم، ذلك المجهول الذي يصعب رسم معالمه سريعا اليوم، إذ توجد تجارب شعرية متعددة لكل صوتها الخاص ومسارها المتفرد، ولا أقول بأن كل ما يكتب قد نستطيع أن نصفه بالشعر ! لكن كل ما يُكتب يؤسس لما سيأتي مستقبلا.

يُلزمنا الأمر العودة إلى الخلف والنظر من بعيد، حتى نرسم معالم التجارب الحالية ونحدد صفاتها ونكتب مجمل توجهات انشغالها، يجب أن نخرج من الصندوق الذي نحن جزء منه. وهو أمر قد يبدو غير سهل، لكنه ممكن التحقق. غير أن هذا لا يمكن أن يمنعنا من الحديث عن كون هؤلاء الشعراء الجدد، المنتمون للحساسية الجديدة، قد انفصلوا أولا من تحقيب الزمني المرتبط بالعقود: الأربعينيات، الخمسينيات، السبعينيات، وثانيا فاشتغالهم مغاير على أساليب اللغة واللعب اللغوي، مهتمين بمجالات فكرية وعلمية متنوعة محاولين إدراج واستدماج ما وصلت إليه من رؤى حول العالم إلى نصوصهم، إذ نجد معاجم فيزيائية وأخرى بيولوجية وطبيعية وأخرى فلسفية وسوسيولوجية وغيرها، تغزو النصوص، في محاولة لبناء نص مغاير، ما أتاح الطريق إلى الحديث عن نص شعري مجسّد ومؤدى ينطلق من الجسد واللغة معا، ليخرج من المجرد إلى المشخص والمرئي. نوع من البرفورمانس.

ـــ أرى أَنَّ الكثير ممن ينتمون إلى الأجيال الجديدة، استعجلوا التسمية، واستعجلوا الظهور، الأسماء والصور، عندهم، أهم من النصوص والكتابات. لا أخفيك، ثمة منهم من لا ملامح لهم، أو ليست لهم وجوه، وجوههم ملامحها كلها مسروقة، وهي كولاج وترميق من تجارب، يمكن الكشف عنها بسهولة. كيف تقرأ هذا الوضع الذي لا يشي بمستقبل ما، ليس لمن يكتب، بل للشعر نفسه، إذا ما بقي بهذه الصورة الملتبسة البئيسة؟

أشاطرك الطرح، غير أنه لربما "يشي بمستقبل ما"، فمهمة النقد وصلاح بوسريف يدرك جيدا أهمية هذا الفعل المغربل –باعتباركم ناقدا متمرسا ومكرسا- في تحديد معالم النص الراهن، أي الذي يكتبه الجيل المنتمي لزمنية النص.. الكتابة حق مشروع للكل ولا يمكن أن "نقطع" يد أي شخص اقترف "جرم" الكتابة، لكن النقاد وحدهم المخول لهم أن يغربلوا الجيد من السيئ. 

لعلنا في مرحلة تأسيس جديدة، فلا يجب أن ننظر إلى تاريخنا الشعري الحديث والمعاصر من زاوية تاريخية طويلة؛ بل إنه لا يزال يحبو في مسار زمني مفتوح على كل الاحتمالات.. لهذا فشعراء الجيل الجديد لا يكفون عن استنبات ما يقرؤونه من ترجمات لتجارب ونصوص بلغات أجنبية، في الحقل اللغوي العربي الخصب، أي نعم هناك من يقوم فقط باجترار المعطى والموجود والمتاح، لكن في الوقت عينه هناك أسماء استطاعت أن تجد لنفسها متسعا رحبا للهو واللعب داخل مختبر لغوي في بحث عن "النص" الذي لم يُكتب عربيا –ومغربيا- بعد، فالشعر تجربة عالمية لا محلية، فقد أثرت نصوص جلجامش فينا جميعا، بل في البشرية جمعاء وما زالت تفعل، ولكم تجربة في هذا المضمار الطويل بإعادة كتابة الملحمة شعرا عبر أسلوب معاصر ومغاير.

على الشعراء ألا يكتبوا مقروئيتهم فحسب بل أن يكتبوا تجربتهم الوجودية أيضا، أو بالتعبير النتشوي يجب أن تمتزج الكتابة بالتجربة الشخصية (بوكوفسكي نموذجا)، أن يكون النص نتاج الكتابة بالجسد وكتابة الجسد.

لهذا فالمستقبل بيد النقاد والقراء معا، فليتنافس الشعراء إذن!؟