رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن فوضى النشر والطبعات الوهمية فى معرض الكتاب

على غير عادتى، ذهبت إلى معرض القاهرة الدولى للكتاب هذا العام بعد أسبوع من بدايته، ولم أكرر الزيارة لأسباب كثيرة، منها مخاوف الوباء، ومعرفتى بتساهل عموم المصريين فى التعامل معه واعتباره مجرد «مرض زى أى مرض.. يومين ويروح»، ومنها ترددى فى التعامل مع فكرة الحجز الإلكترونى، وتحديد عدد الزوار اليومى، رغم تشجيعى هذه الفكرة، وترحيبى بها باعتبارها الحل الأمثل للتعامل مع حدث كبير بمثل أهمية المعرض.

والحقيقة أن تلك الزيارة التى استغرقت اليوم كله حملت لى الكثير من المؤشرات المهمة على حيوية هذا الشعب، واختلاف طبائعه وسلوكياته عن تلك العشوائية التى نراها ونمتعض منها فى القاهرة وغيرها من المدن الكبيرة، فالقادمون من «الفلاحين»، بتعبير «هبيدة السوشيال ميديا»، أكثر انضباطًا ووعيًا فى التعامل مع «الجائحة»، وأكثر استجابة للتعليمات وتحذيرات إدارة المعرض من التجمعات، والحرص على التباعد.

على أن الأمر لم يخلُ من عدد من المنغصات، والسلوكيات التى فتحت فى عقلى الكثير من الأسئلة بخصوص صناعة النشر والكتاب فى مصر، فإذا كان الناشرون لا يتوقفون عن الشكوى من تراجع المبيعات، وركود حركة الكتاب فى السوق، فما رأيته بعينى يؤكد غير ذلك، الجمهور موجود بوفرة، وفى كل الأجنحة، ومن جميع المشارب، والأذواق، لكن أين المنتج الذى يغريه أو يجذبه؟، وما نوعية البضاعة المعروضة له؟

قبل بداية المعرض بأيام قليلة نشر عدد من الكتّاب الشبان صورًا لأغلفة طبعات جديدة لكتبهم، ونشرت صفحات تديرها بعض دور النشر أخبارًا دعائية لكتبها الجديدة فى المعرض، ومنها الكثير من الأعمال لكتّاب جدد، خصوصًا فى الرواية التى تشهد سوقها رواجًا غير مسبوق، ويُقبل الشباب على كتابتها، وقراءتها والاحتفاء بها، وهو أمر أراه مؤشرًا جيدًا على وعى الأجيال الجديدة، واهتمام دور النشر بفتح السوق أمام المواهب الجديدة، إلا أن الحقيقة التى صدمتنى فى تلك الزيارة أن الأمر لا يخرج عن مجرد «ألعاب دعائية»، و«ضحك على القارئ»، أو ما يمكن أن نطلق عليه «النصب باسم تعدد الأصوات وفتح الأسواق»، على أن الأخطر فى الأمر أنه يهدد صناعة النشر فى مصر ويصيبها فى مقتل.

ولكى تتضح الصورة بشكل أفضل، دعونى أحكِ لكم ما حدث بالضبط..

بالقرب من باب صالة «١» بأرض المعارض الجديدة، قابلت أحد معارفى من العاملين فى طباعة الكتب، كان يحمل فى يده حزمة كبيرة مغلفة جيدًا، وعندما سألته عنها، ارتفعت ضحكته وهو يقول لى: 

- دى الطبعة الخامسة من رواية جديدة.

ظهرت على وجهى علامات الدهشة وأنا أوضح له: 

■ تقصد أنها نسخ من هذه الطبعة.

فرد بضحكة أوسع من سابقتها: 

- لأ.. دى الطبعة كلها.

■ إزاى يعنى؟!

- هى الطبعة فى المعرض كده.. خمسين نسخة «ديجيتال»، لو اتباعوا نطبع غيرهم، وكل طبعة برقم جديد.

حاولت أن أعرف منه اسم الرواية أو المؤلف أو الدار، لكنه تهرب من الرد لمعرفته بعملى كصحفى «ما بيتبلش فى بقه فولة»، ثم زاغ منى، وذاب فى الزحام.

أعرف أن بيع خمسين نسخة من رواية فى أول أيام المعرض أمر جيد، ومؤشر على انتشارها وجودتها أيضًا، وما قاله صديقى يعنى أنه تم بيع «مائتى نسخة»، لكن أن تكون هذه هى الطبعة كلها فهذا أمر غريب، ومريب أيضًا.

لحظتها تذكرت أننى رأيت على أحد مواقع التواصل صورة لغلاف رواية جديدة لكاتب وروائى معروف، وتذكرت أنه كتب بجانب الصورة أن الرواية «سوف» تصدر مع المعرض، على أننى لم ألتفت وقتها إلى وجود رقم «٣» على الغلاف، هنا بدأت علامات الدهشة ترتسم على وجهى مرة أخرى.. «معقولة؟!»

قلت لنفسى لا داعى لسوء الظن، فربما كان مجرد رقم كجزء من تشكيل الغلاف.

فتحت صفحة ذلك الكاتب على موقع «فيسبوك» لمراجعة الأمر، لأكتشف أن المكتوب ليس مجرد رقم، بل عبارة واضحة مكتملة وإن كتبت على هيئة رموز «ط٣»، ليأتى دورى هذه المرة فى الضحك بصوت أعلى من ضحكة صديقى صاحب المطبعة.

هكذا.. تحول الكثير من الناشرين إلى مجرد تجار كتب، لا يهمهم سوى الضحك على القارئ وإيهامه بأن كتبهم هى الأعلى مبيعًا، والأكثر تنوعًا، لا يهمهم سوى «البيع الآن» ولتذهب سمعة الكتب والكتّاب المصريين إلى الجحيم، فالمشترى سوف يعرف ما تعرض له من خداع، ويكتشف القيمة الحقيقية لما دفع فيه أمواله، ولا بد أنه سوف يفكر بعد ذلك ألف مرة قبل أن يشترى من ذلك «الناشر» أو «الكاتب»، والحقيقة أننى لا أعرف ماذا يمكن أن يفعل اتحاد الناشرين المصريين فى مثل هذه المشكلة؟ وما هى الأدوار التى يمكن أن يقوم بها، خصوصًا مع هذه العشوائية المفزعة وفوضى الطبعات الوهمية، بهدف إغراء «الزبون» والضحك عليه؟ 

هنا ربما يكون من المناسب أن تفكر إدارة اتحادى الكتّاب والناشرين فى فرض رسوم بنسبة معينة على الطبعات الجديدة من الكتب، على أن يتم تحديد عدد نسخ الطبعة بألف نسخة مثلًا، ربما تحد هذه الرسوم من جنون «تجار الكتب»، وهواة لعبة «الطبعات الوهمية»، فتحافظ للكاتب المصرى على ما تبقى له من قراء.

أخيرًا.. تحية للدكتور هيثم الحاج على وفريقه على نجاحهم المبهر فى تنظيم المعرض هذا العام رغم أنف جائحة كورونا، ورغم الوباء، وتهاون المصريين فى التعامل معه، ورغم شكاوى تجار الكتب.