رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا تولد قبيحًا أو حساسًا أو منطويًا

 

أحزننى عنوان مجموعته القصيرة «لا تولد قبيحًا»، هذه العبارة تحمل ألمًا وقلة حيلة، إنها الأمنيات المستحيلة، فلا أحد يعرف كيف يكون شكله حين يولد، ولا اختيار لنا فى الموت أو الميلاد.. دفعتنى عبارة «لا تولد قبيحًا» للبحث عن الروح التى انصهرت فى بوتقتها فوجدتها روحًا حساسة مضخمة لذوات الآخرين وتأثيرهم، حساسة لأى ذبذبة أو اهتزازة عدم رضا أو تقدير فى العالم الخارجى.. وهو يصف نفسه فى المقدمة قائلًا: أنا رجل بلا امرأة.. بلا حقل للقمح.. بلا زجاجة نبيذ.. بلا كرة للعب.. بلا ذكريات مضيئة.. بلا طريق للمستقبل. على قبرى ستكتب العبارة الآتية: «هنا يعيش إنسان مات أثناء حياته».

وموته أثناء حياته- كما يقول- يرجع إلى سوء تقدير الآخرين له، فهو رجل تتبعه الضحكات والكلاب.. ضحكات الناس ودعوات الكلاب. «وتفسيره هذه الحالة هو قبحه» مشكلة القبح.. يمكنك أن تتخيّل أغرب رجل فى العالم.. أقبح وجه يمكنك أن تصادفه فى أى مكان على الأرض؛ لتتأكد أنك ترانى أمامك.. الأضحوكة الدائمة الغرابة.. أنا دائمًا الأغرب.. الأفظعُ.. الأقبح». 

دفعتنى هذه الصفات التى يصف بها نفسه أو يرى نفسه ترتديها للبحث عن صورته فوجدتها على محرك البحث جوجل، فلم تظهر لى الدمامة أو القبح الذى تصورته بناء على وصفه نفسه، بل هو إنسان يمكنك أن تكون قد قابلت فى الحياة كثيرين مثله، دون أن تتنمر أو تسخر منهم، هناك كثيرون من ممثلى السينما لا يتسمون بالجمال، بل يعتبر عدم وسامتهم من أسباب شهرتهم، ومع هذا يتمتعون بمحبة وتقدير الجماهير، والأمثلة كثيرة. 

يقول عليش: مشكلة الإنسان القبيح فى رأيى ليست إحساسه بالاختلاف عن الآخرين، لكن فى ذلك التربص القائم به من جانب هؤلاء الآخرين.. تضخيم المشكلة أمامه بصورة تدعو إلى اليأس المطلق وإلقاء السلاح.. تدعو إلى كراهية الناس واعتبارهم مصدر تعاسته الحقيقية. المشكلة هى الإذلال الدائم له.. تذكيره دائمًا بناحية قصوره الخاصة.. النظر إليه باستغراب شديد إذا ما حاول أن يمارس الحياة كشخص عادى متمالك حواسه الخمس، وهنا يقع الناس فى أغرب تناقض متصور.. إنهم يعتبرون القبيح إنسانًا عاديًا تمامًا، ولكنهم فى الوقت نفسه يستنكرون منه بشدة أن يمارس حياة الإنسان العادى، الغريب أن الناس يعاقبون الإنسان القبيح على جريمة لم يرتكبها هو، بل ارتكبت فى حقه من جانب قوى مجهولة شيطانية، كان يمكن أن تنكل بهم مثله، لكنهم أفلتوا بمعجزة، بمجرد صدفة حسنة فى حياتهم.. يعاقبونه جميعًا.. يعاقبونه طول الوقت.. يعاقبونه حتى نهاية حياته». 

إن مشكلة عليش ليست فى رؤية الناس له، بل تكمن فى رؤيته هو لنفسه، إن لدى عليش حساسية طاغية وإحساسًا مضاعفًا بالذات، جعلته هو نفسه يرفض عدم اقترانه بالجمال الظاهرى، رفضه فكرة ألا يكون وسيمًا وجذابًا ومحط الاهتمام والتقدير، هى ما تجعله يضخم من عيوب وجهه أو هيئته أو قامته فيصف نفسه: «ملك يرتدى ثياب صعلوك.. مفكر يلعب بدمية طفل صغير.. مهرج يحاول أن يخلع قناع الضحك من فوق وجهه دون جدوى، فالطبيعة قد وضعته هناك وألصقته جيدًا؛ ليبقى إلى الأبد. أنا أفكر كأننى أحلم وأحلم كأننى أفكر».

وفشله فى العلاقات العاطفية حطم كرامته، رغم أن الفشل العاطفى يمكن أن يصيب الجميع، دون أدنى تأثير لدرجتهم على مقياس الجمال، تصفه النساء اللاتى يسعى للتقرب منهن: «أنت لطيف ككرسى حمام.. ظريف كسيجارة بعد الغداء.. لذيذ ككوز ذرة مشوى.. مسلٍ كببغاء أربيه فى المنزل، ويقول لى نكات لطيفة طول الوقت.. طيب كقط حنون يتمسّح فى ساقى ويقفز فوق حجرى.. أنت مثل أخى تمامًا.. هذا ما تقوله النساء لى دائمًا».

يبدو أن الكاتب رجاء عليش الذى انتحر عام ١٩٧٩ لم يكن بحاجة لأن يحبه أو يتقبله الآخرون فقط، بل كانت حاجته التى لم يدركها هى أن يحب نفسه أولًا، فكارثته تكمن فى أنه لم يحب نفسه أبدًا، وهو أول من تنمر بها، وأوردها موارد الهلاك.. مسكين رجاء عليش الذى قتلته روحه المظلمة قبل أن يقتلها. 

رزقكم الله المحبة والمرايا التى تضخم حسنكم وتهون ما ينقص منه.