رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حياد مصر

الوحيد فى تاريخنا الثقافى الذى تحالف ضده اليمين واليسار والناصريون والقوميون والسلفيون وأقاربه، هو الدكتور لويس عوض، ومع هذا بقى واحدًا من أنصع الأصوات فى تاريخ الثقافة المصرية، لأنه لم يخضع للابتزاز، ولم تفارقه ابتسامته العذبة حتى آخر أيامه فى سبتمبر ١٩٩٠ بمستشفى مصر الدولى، احتفلت الدولة بذكراه مرتين بعد رحيله، مرة بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، والأخرى فى ٢٠١٥ بالمجلس الأعلى للثقافة بمناسبة مرور ١٠٠ عام على ميلاده.

قدم للمكتبة العربية خمسين كتابًا من أهم الكتب التى تحرض على التفكير وترفض الجمود، هو أستاذ جامعى ومعلم عقلانى يعيش بقلب شاعر و فنان، أقل التهم التى وجهت إليه هى الجاسوسية والطائفية وهدم اللغة العربية وما إلى ذلك من التهم الجاهزة التى كان يطلقها خصومه وخصوم التفكير الحر بدلًا من مناقشة أفكاره، التى كانت فى معظمها صادمة لذوى العقول الكسولة، ومن الذين نصبوا أنفسهم حماة للدين والأخلاق والوطنية والشعر العمودى!، وربما كانت كتابة المصادر «مقدمة فى فقه اللغة العربية» المأساة الأكبر والتى مهدت لسطوة التكفيريين فى الثمانينيات والتسعينيات على العقل فى مصر، وقت صدور الكتاب فى سبتمبر ١٩٨١ عن هيئة الكتاب، أرسل مجمع البحوث الإسلامية إلى الأمن يطالب بالتحفظ على الكتاب ومساءلة مؤلفه، فى محكمة جنوب القاهرة دفع محامى لويس عوض «أحمد شوقى الخطيب» بأن هذه قضية لغوية تحتاج إلى محكمين من مجمع اللغة العربية، استجابت المحكمة وشكلت لجنة من الدكتور توفيق الطويل وأحمد حسن الباقورى وعبدالرحمن الشرقاوى، ولكن الأزهر رفض هذه اللجنة، وصودر الكتاب، وهاجمه أشخاص لم يقرأوه، ولم يتم الاستئناف على الحكم خوفًا من إرهاب رموز التطرف آنذاك، رغم أن القانون رقم ١٠٣ لسنة ١٩٦٧ بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التى يشملها ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم ٢٥٠ لسنة ١٩٧٥، لا يعطى الأزهر بكل هيئاته أى حق فى طلب مصادرة أى كتاب أو عمل فنى، الأسبوع الماضى صدر للدكتور لويس كتاب «دراسات فى الحضارة» عن سلسلة الهوية التى تصدر عن هيئة قصور الثقافة، وهو كتاب جميل لم أسعد بقراءته قبل ذلك، ويتناول معركته مع توفيق الحكيم والدكتور حسين فوزى ووحيد رأفت فى مارس ١٩٧٨، الذين اخترعوا نظرية «حياد مصر» على صفحات الأهرام والأخبار، وهذه النظرية التى تريدنا مثل سويسرا، والتى جددت أسطورة الحزب الوطنى أيام الحرب العالمية الأولى، والتى تعارض فلسفة الحزب نفسه، منذ مصطفى كامل، القائمة على التمسك بإمبراطورية مصر الإفريقية، أى السودان والملحقات بها وأوغندا والقرن الإفريقى، وجدد الدعوة نفسها سليمان حافظ وبعض السياسيين «الحياد الدائم» أيام حرب السويس مع تنحية عبدالناصر لإنقاذ مصر من العدوان الثلاثى، الحكيم أراد تخلى مصر عن العرب، لأنها «متحف العالم» الذى لا يُصان إلا بالحياد!، ولأن مصر «أضاعت حياتها ومالها وأفلست واشتغلت خادمة بالأجر فى بيوت الدول العربية الغنية»، ويرى عوض أن الحكيم ومؤيديه يتجاوزون عن حقيقة أن أهم حقائق الحياة والتاريخ ألا وهى الحقيقة الجيوبوليتية «الجغرافية السياسية» التى تربط مصر راضية أو كارهة بالمنطقة العربية وبالمنطقة الإفريقية وهى حقيقة الأمن القومى المصرى البحت بلا فلسفة ولا ميتافيزيقا ولا مجردات طنانة كتلك التى يطلقها البعثيون، ويضيف: أنا لست بحاجة إلى أن أسمى نفسى عربيًا أو إفريقيًا لكى أدرك أن أمن مصر نفسها متوقف على أمن المنطقة العربية لا سيما فى شرق البحر المتوسط والبحر الأحمر، وعلى أمن المنطقة الإفريقية لا سيما فى منابع وادى النيل وفى مدخل البحر الأحمر، الكتاب بحث فى شخصية مصر وهويتها وفرادتها، ويجيب عن أسئلة أيامنا هذه، مكتوب بلغة حارة وإيقاع لاهث وناقش فيه خصومه بأدب ومعرفة تليق بأحد عظماء العقل المصرى.