رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثلاثون من يونيو وقصة صعود الاقتصاد المصرى

اتذكر قبل ثماني سنوات وأنا ابن 24 عامًا حين نزلت الشارع لأشارك فى الثورة فى مثل هذا اليوم عام 2013، لحسن حظي كان ميدان تجمع المعارضين للحكم الإخواني فى نفس محل سكني، وهو منطقة سيدي جابر بالإسكندرية، كان يوماً مشهوداً بحق.

فى ذلك الوقت كان الرأي العام مشغولا بقضايا الوطن بشكل عام سواء سياسية أو دينية وخلافه، لكن لم يكن هناك اهتمام جاد بالمسألة الاقتصادية، ولم ينتبه أحد لخطورة هذه المسألة سوى المشير عبدالفتاح السيسي فى خطاب ترشحه للرئاسة حين تحدث صراحة عن خطورة وعظم هذه المسألة دون باقي المسائل.

لكن لنعد للخلف قليلا قبل إعلان المشير ترشحه، كان الوضع قاتما شديد السواد.. اقتصاد أي دولة يتم قياسه عبر محددات ومعايير رئيسية متعارف ومتفق عليها بين الاقتصاديين والمؤسسات والمنظمات الدولية على حد سواء.. أول هذه المعايير معدل البطالة الذي وصل إلى أسوأ مستوياته التاريخية عند نحو 13.4% نظرا لتوقف كافة المشاريع العامة والخاصة، لم تكن تجد في هذه الفترة أي رجل أعمال أو مستثمر لديه الشجاعة والرغبة في تأسيس وتوسيع أي مشاريع قائمة أو مستقبلية.

تستيقظ من الصباح فتجد المشاكل فوق رأسك من كل حدب وصوب، انقطاع بالكهرباء، شح للبنزين، مشاحنات فى التموين والخبز المدعم والبوتاجاز، اضطرابات ومظاهرات فئوية متنوعة، سجال سياسي بين كافة الأطراف والتيارات، هشاشة سيادة القانون وتدهور هيبة الدولة فى الشارع والمرور والمصالح والتقاضي، مناخ استثماري وبيئة أعمال تجارية طاردة ولا تحوي أي فرصة أو إغراء للشركات الأجنبية.. فوق كل ذلك رئيس الدولة، آنذاك، يعلن توريط المصريين وجيشهم فى حرب خارجية هى حرب سوريا وإعلانه الجهاد من استاد القاهرة.

وضع مأساوي وقيادة مضطربة وانعدام للرؤية، سياسات اقتصادية مشوشة وغير محددة، مفاوضات أولية مع صندوق النقد ثم التراجع عنها بضغط الشارع، اضطرابات وفوضى وهشاشة وتوتر وارتباك وتشوش يخيم على المشهد الاقتصادي لمصر.

إلى أن وصلنا إلى لحظة الانفجار فى الثلاثين من يونيو 2013، ويطالب أكثر من 33 مليون مصري بحقهم فى حكومة وطنية مخلصة قوية وحازمة، نزلوا ليطالبوا بحقهم فى الأمن والاستقرار والتنمية.

مارس 2014، بعد 9 أشهر من ثورة المصريين، ومع الضغط والمطالبات الشعبية الجارفة، ينزل المشير عبدالفتاح السيسي عند رغبة المصريين ويعلن استقالته من منصبة كقائد عام للقوات المسلحة ويتحدث فى خطابه أنه جاء ليقدم نفسه لهذا المنصب فى مهمة إنقاذ وبناء وعمل وليس تكريما ولا طلبا للسلطة.

خطاب المشير فى ذلك الوقت أثار انتباه الرأي العام ناحية المسألة المنسية.. الاقتصاد.

هنا تنفس الاقتصاديون الصعداء، أخيرا نالت قضيتهم الاهتمام المطلوب والضروري.

والآن وبعد 7 سنوات على تولي الرئيس السيسي مهام مسئوليته، إلى أي مدى نجح فى الوفاء بوعوده؟ 

فى تقديري، أداء الرئيس السيسي فاق توقعات أكثر المتفائلين.

لم يكن ينتظر أحد من الرئيس أكثر من استعادة وبناء المؤسسات، وأن يقوم بتسيير أمور الاقتصاد كما اعتدنا أن يسير، وفى ظننا أن يكون هذا هو الإنجاز.

لكنه ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، السياسة الاقتصادية للرئيس السيسي اتخذت الطريق الصعب، لكنه طريق الأمم العظيمة الناهضة والناشئة.. منهج مواجهة المشاكل مواجهة حقيقية وعلاجها علاجًا حقيقيًا، حتى ولو قوبل ذلك باعتراض من أشد مؤيديه، هذه المواجهة وجها بوجه مع مؤيديه تستلزم شجاعة وصدقا، ورئيس الدولة المصرية لم يكن لديه إلا الشجاعة والصدق ليقدمهما لناخبيه وشعبه.. تشجع واتخذ القرار.. صدقه الناس وساروا وراءه.

  • قرار تحرير سعر الصرف
  • قرار رفع الدعم عن الطاقة (الوقود والكهرباء)
  • قرار رفع الضريبة على القيمة المضافة والرسوم المختلفة
  • قرار رفع الجمارك على بعض السلع
  • قرار وقف البناء المخالف
  • قرار التصالح فى مخالفات البناء

كلها كانت قرارات موجعة ومؤلمة للكثير من الطبقات والفئات بين المصريين، لكن الصدق والشجاعة كانا كافيين للمرور إلى بر الأمان.

أصبح لدينا اقتصاد صلب يتم اتخاذه قدوة ونموذجا للاقتصادات الناشئة حول العالم، أصبحنا الوجهة الأولى للاستثمار الأجنبي المباشر فى القارة الإفريقية لخمسة أعوام متتالية بدلا من المركزين السادس والسابع قبل ذلك.

معدل البطالة انخفض الى أفضل مستوياته فى أكثر من 30 عاما عند 7- 8%، الدين العام انخفضت نسبته الى الناتج 88% بدلا من 108%، بالتوازي مع تحويل هذه الديون من الاستخدام الاستهلاكي (أجور وشراء سلع دون عائد) الى استخدام استثماري (إنشاء مشروعات تدر عائدا) مثل إنشاء نحو 14 ألف مشروع بتكلفة تتجاوز 4.4 تريليون جنيه من 2014 إلى 2020.. منها على سبيل المثال ما أُنجز فى ملف الطرق والمرور والنقل والمواصلات، وهو ملف يرتبط مباشرة بحياتنا اليومية، حيث تم رصف وتمهيد اكثر من 9200 كم طرقا، نتج عن ذلك انخفاض ملموس فى حوادث الطرق بـ40% بين عامي 2018 و2014، ليتحسن ترتيب مصر العالمي فى جودة الطرق من 118 الى 28 وفقا للمنتدى الاقتصادي العالمي ومؤشر التنافسية الدولي.

وبشكل عام فى ملف البنية التحتية (الكهرباء، الصرف ومياه الشرب، الغاز المنزلي، الاتصالات) شهدنا تحسن ترتيب مصر من 114 عام 2014 الى 52 عام 2019 وفقا للمنتدى العالمي.

نجحنا فى تحويل عجوزات الموازنة الأولية الى فوائض لأول مرة فى تاريخنا، كما أننا نجحنا فى تخفيض نسبة استحواذ فوائد الديون الى إجمالي مصاريف الموازنة عند 32% وهى أقل نسبة فى آخر 5 سنوات.

هذه الفوائض والوفورات استطعنا من خلالها تدشين حملات مجانية مؤثرة فى حياة ومعيشة الناس مثل علاج 2.2 مليون مريض بفيرس سي، الكشف على نحو 60 مليون مصري فى مبادرة 100 مليون صحة، إجراء نحو 835 ألف عملية جراحية متأخرة كانت على قوائم الانتظار بمبلغ 7 مليارت جنيه، انتشال نحو 250 ألف أسرة مصرية من العشوائيات والعشش والمساكن غير الآدمية الى وحدات مؤثثة ومجانية فى اماكن آدمية تحفظ كرامتهم وكرامة وطنهم، وتأسيس مظلات متعددة وطبقات مختلفة من الحماية والدعم الحكومي للفئات الاكثر عوزا وفقرا لحمايتهم من آثار الاصلاح الاقتصادي، مثل «تكافل وكرامة» الذي يغطي حاليا نحو 3 ملايين أسرة بميزانية تتجاوز الـ19 مليار جنيه سنويا.

الاقتصاد المصري حاليا يقف عند أفضل نقطة له على الاطلاق فى 10 سنوات وأكثر.. ولولا أزمة الجائحة العالمية لفيرس كورونا لكنا فى مكانة أفضل كثيراً.

تم استعادة مؤسسات الدولة الدستورية، بالتوازي مع عودة المستثمرين المحليين والأجانب، أنجزنا إصلاحا اقتصاديا جريئا وتاريخيا استعصى علينا إتمامه منذ 50 عاما، أعدنا بناء الاقتصاد المتهدم على اساسات جديدة صلبة وقوية، وضعنا أسس مرحلة جديدة من النمو الاقتصادي الاحتوائي بما يضمن وصول آثاره لأكبر عدد ممكن من السكان (حياة كريمة مثالا للنمو الاحتوائي)، شكلنا تحالفات إقليمية اقتصادية مع العديد من بلدان المنطقة لتكون رافعة اقتصادية إضافية لآفاق النمو فى مصر، وذلك عبر الدبلوماسية الاقتصادية النشطة (قبرص اليونان- العراق الأردن- ليبيا السودان- السعودية الإمارات- النقد والبنك الدوليين)، حققنا الاكتفاء الذاتي من الكهرباء والغاز وأغلب المحاصيل الغذائية الاساسية، وفى طريقنا للاكتفاء ايضا من الوقود خلال عامين.

كما قلت، الاقتصاد المصري فى تقديري اليوم يقف عند أقوى نقطة زمنية له، لم نكن بهذه الصلابة والعنفوان والنشاط الاقتصادي والفوائض والوفورات هذه من قبل.

وصل الاقتصاد المصري لدرجة من النجاح جعلت تساؤلات الناس تدور حول أسئلة لم تكن تُطرح من قبل، كمثال: كيف تقوم الحكومة بتدبير هذه التمويلات والمخصصات المليارية الضخمة؟ منذ متى أصبح التمويل أمره يسيرا فى أي مشروع قومي؟، بدلا من أسئلة سابقة كانت تُطرح منها كمثال: أين تذهب أموال ضرائبنا؟ وفيم تنفق؟ أين هى انعكاسات النمو الاقتصادي- الذي تتحدث عنه الحكومة ولا نسمع عنه إلا فى التليفزيون- على حياتنا ومعيشتنا ومستقبل أبنائنا؟

فى رأيي الشخصي، ما وصلنا إليه وما حققناه هو قصة نجاح وتجربة مُلهمة لشعوب العالم، تجربة تستحق أن تُروى وتكتب وتدون فى كتب الاقتصاد وندواته ومحاضراته فى معاهد وأكاديمات وجامعات ومكتبات العالم.

أتذكر كتابًا كنت قد قرأته قبل فترة لمراسل الايكونوميست فى كوريا الجنوبية "دانيال تيودر" بعنوان:

Korea: The Impossible Country: South Korea's Amazing Rise from the Ashes

أي: كوريا.. بلد المستحيل.. قصة كوريا والصعود من الرماد

وحين أقوم بعقد مقارنة بسيطة ومنطقية بين بلدي مصر، وبين كوريا الجنوبية التى كانت مدعومة من الولايات المتحدة والغرب بمئات المليارات والخبرات والتمويلات والمعاملة التفضيلية المميزة أثناء الصراع المحتدم بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية- أجد بلادي مصر فعلت ما هو أكثر من المستحيل فى كوريا، مصر نهضت من الرماد فى أقل من 7 سنوات، مصر لم تحظَ بدعم غربي ولا شرقي، بل على العكس كنا فى مواجهة تيارات مقاومة عنيفة فى المجتمع والمنظمات الدولية أثناء حربنا ضد أشر وأسوأ وأخبث تنظيم ميليشياوي ديني دولي عرفه العالم مثل الإخوان، مع 1221 عملية ارهابية طوال هذه السنوات السبع الصعبة، واستهداف متتالٍ ومخاطر من كل اتجاه غربا حيث ليبيا وشرقا حيث غزة وإسرائيل وشمالا فى البحر المتوسط حيث حقول المتوسط وجنوبا حيث التغيير فى السودان ومنابع النيل فى إثيوبيا، ورغم كل هذه التحديات والعقبات نجحنا فى الصعود من الرماد، لذا أرى أنه لو كان العالم الغربي يرى أن تجربة كوريا يمكن أن توصف بـ"المستحيل" فإن تجربة بلادي مصر تستحق أن توصف بما هو أبعد من "المستحيل».

  • محلل اقتصادي