رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بعد فوزها بجائزة «نجيب محفوظ».. أسباب «أسطورية» أبطال «وادي الدّوم»

 رواية وادي الدوم
رواية وادي الدوم

ينسج  الكاتب علاء فرغلي، في روايته "وادي الدوم"٬ والتي فاز عنها بجائزة الروائى العالمى نجيب محفوظ للرواية لعام 2021 فى مصر والعالم العربى٬ عالمًا باذخ الثراء بكل مفرداته٬ يتكئ في المقام الأول على الحكاية المراوغة ما بين ما كان وما هو حادث وقت السرد الآني. 

عالم الصحراء الغربية التي لا نكاد نعرف عنها شيء عالم الواحات المنسية رغم كونها البوابة التي مرت من خلالها جيوش الغزاة والمتحاربين٬ من أول الملك الفارسي قمبيز٬ والإسكندر الأكبر٬ وصراع المماليك بين بعضهم البعض٬ وفرارهم من المحروسة إلى الصعيد خوفا من مدافع نابليون٬ وجيش السنوسي المهدي في حربه ضد الكفار٬ مرورا بجيوش العالم التي تقاتلت وخلفت ورائها ملايين القتلى في الحربين العالميتين الأولى والثانية٬ وليس انتهاءً بغارات القذافي وحربه على التشاديين٬ بل وبوادر ظهور تنظيم "داعش" الإرهابي الدموي. 

الكل عبر من هناك٬ الكل حاول الاستيلاء على "الدومة" وكسر شوكتها لكنها كانت أيضا أبية على الانكسار والأسر٬ كانت نخلاتها الشامخات السامقات دوما عصية على الانحناء٬ وظلت جروفها الصخرية بواباتها الحارسة الساهرة على حماية ساكنيها ضد أي غزو أو محاولة للاحتلال٬ أو كسر هامة مؤسسيها وساكنيها.

يجدل علاء فرغلي في روايته "وادي الدوم"٬ والصادرة عن دار العين٬  بواقعيته السحرية حيوات كاملة لأبطاله٬ من أول "الشاهين" قصاص الأثر الذي ظل يدخر طويلا نفقات سفره للبحث عن "زرزورة" تلك الواحة التي طالما خايلت أحلام قاطني الصحراء الغربية كجنة عدن أو على أنها الفردوس المشتهى المفقود. 
وبين إغماضة عين وأخرى يتحقق حلم "الشاهين" المنشود٬ من خلال تلك البعثة التي كانت تنقب وراء الآثار واتخذت منه دليلًا صاحبها وأرقت الأجنبية الملونة، فحولته وظل طوال عمره يحلم بملمسها ذاك الذي اختبره عندما قبلته على خده في أول ملامسة له للنساء، "كانت حرمة أينما تغرس رمحك منها يصيب مقتلا"، ستسوق إليه الأقدار أفراد البعثة بعد 20 عاما ليجد نفسه وجها لوجه مع الكولونيل "إسناو" وبفضل الصداقة القديمة بينهما يلبي مطلبه بأن تعسكر كتيبته خارج الدومة٬ وسيسمع حكاية "رويل" وعشقه لإحدى بنات الصحراء فيشعل من أجلها حربا طاحنة بعدما يصبح رويل قائدا لقوات الإنجليز في مطروح.

أبطال رواية "وادي الدوم" من الأساطير، ولا يقلون في شيء عن أبطال الملاحم الإغريقية٬ فنجد "تخلو" الذي خطف وبيع كعبد لا يؤرقه في محنة اختطافه وبيعه كسلعة سوى نهدي "توتة" حتى أنه يفتض بكارتها داخل صهريج ماء أثناء تهريبهما بعيدا عن عيون حكومة الخديوي التي كانت قد ألغت تجارة الرقيق. وكحكايات ألف ليلة يلاقي تخلو توتة بعد أن حملت منه في الدومة بعدما أنقذه الشاهين عقب أمر "المهودي" له في الرؤية بأن يخرج باحثا عن مفقود فينقذ حياة تخلو بعدما شارف على الهلاك.

ومثل أبطال حكايات ألف ليلة سيدهشك أبطال الدومة٬ من أول "المدين" مروض الضباع ومربيها كحراس للدومة يدافعون عنها٬ ينهشون لحم أصحاب الرايات السوداء حينما فكروا في انتشال أهالي الدومة من الكفر. أو أمه "صبرنا" التي وهبت حياتها لله فعزفت عن الزواج إلا أنها تلبي نداء دليل عبد النبي٬ فلا يطأها إلا مرتين. وعندما تعود للدومة تظل على موقفها من "شروفة" الذي هام بها حتى أن الألسنة تشير إليها في شرفها٬ حتى تغسل "عسلة" سمعتها٬ فتتزوج من المدين وتفك أسر رجولته للدرجة التي تدفع ضرتها بأن تقبل يدها.

ويبدو أن شخصية "المدين" شخصية لها ملامح حقيقية واقعية٬ حيث يقول علاء فرغلي عنه في إحدي لقاءاته الصحفية: استلهمت الشخصية من صائد حيوانات جبلية، شاب ممتلئ الجسد ثابت النظرة، يجابه الضواري في المواكر ومعامر الجبال المظلمة، يتحداها، لا يخرج من الكهف إلا وقد كبّل الضبع أو الذئب وحمله وعاد به إلى قريته.

"وادي الدوم" رواية ملحمية كلما أوغلت في قراءتها تستدعي في ذهنك العديد من الإحالات٬ فمجرد أن تتعرف على الخواجة "أرنولد" الرحالة الذي صار من أهل الدومة متعقبًا تاريخها ومؤرخًا لأحداثها وأبطالها٬ يقتفي آثار الديناصورات المنقرضة٬ يبذل أقصى جهده للحفاظ على ما تبقى من آثار أجدادنا٬
ستتذكر على الفور الخواجة عبدالقادر٬ أو هربرت دوبرفيلد، سيستدعي الطيار الأسترالي الذي أنقذه أهل الدومة بعد أن أحترقت طائرته وعالجته من حروق وجهه٬ بطل فيلم "المريض الإنجليزي".

بل إن كل تفاصيل العمل محملة بحس إسطوري أقرب للواقعية السحرية بكل تجليات العمل٬ سواء من عين الماء نفسها التي قامت الحياة في الدومة من حولها٬ أو البحيرة التي امتلأت بالأسماك بعدما تشهتها صبرنا فأنزلتها السماء للبحيرة. في الدومة يتجاور طريق قوافل الحج الإسلامي المسيحي٬ يتجاور ضريح الشيخ المهودي٬ وقلايات الرهبان وأديرتهم التي يدافع عنها الشاهين٬ ومن بعده ولده المأمون٬ وستلجأ نسوة الدومة للدير للاحتماء به عندما يغير أصحاب الرايات السود٬ يستقبلهن أبونا الشيخ "متاؤس" يطمئن جزعهن. وغيرهم الكثير من الشخوص والأماكن التي نسجت عملا ملحميا ستظل آثاره عالقة بذهنك فتعاود قراءته أكثر من مرة٬ فتعيش عوالمه الخصبة بخيال جامح.