رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ضد التناسل

«لا أريد إحضار مزيد من البؤساء».. ماذا يدور في رأس «اللا إنجابيات»؟

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

وقفت لمياء محمود، ثلاثينية، أمام المرآة تكرر الكلمات نفسها لذاتها كنوع من التدريب عليها، فهي اليوم ستخبر الشخص الذي أحبته لمدة عام وأوشكت على الزواج منه بإنها لا إنجابية، بعد معركة ضارية خاضتها مع ذويها انتهت بإصرارها على ذلك القرار الذي اتخذته منذ كانت في الخامسة عشر من عمرها.

لا تعرف الفتاة ماذا سيكون رد فعله، لديها توقع بأن يثور ويغضب ويرفض ثم يرضخ في النهاية لرغبتها مثل ذويها، لكن ليس كل متوقع آت، فقد ظلت محاولاتها لإقناعه لمدة شهر. انتهى الأمر بالانفصال نهائيًا، رغبة منه في إنجاب أطفال يحملون اسمه وإصرارًا منها على عدم إحضار مزيد من الأجيال لهذا العالم.

"لست جافة أو قاسية ولكن العالم بغيض فلا داعي لظلم آخرون"، تؤمن لمياء بأن جلب مزيد من الأطفال والأجيال في ذلك العالم القاسي للاحتفاظ بصورة اجتماعية نمطية هو نوع من الظلم لهم، لكنها مقابل ذلك تواجه ضغوط مجتمعية شديدة.

ليست لمياء بمفردها التي تخوض معركة الإصرار على رفض الإنجاب، فهناك فتيات كثيرات لا إنجابيات أو Antinatalism وهن اللاتي يرفضن جلب مزيد من الأطفال يخوضون تجربة الحياة القاسية تلك ويرون أنه نوعًا من الظلم واللا منطقية.

تقول لمياء: "الرغبة في عدم إنجاب أطفال ليس نابعًا من الكره لهم وإنما من الحب الشديد، حيث أن تجربة الحياة قاسية في ظل الحروب والمجاعات والأمراض والفقر واللا مساواة بين المستوى المعيشي للبلدان والكوارث الطبيعية وزيادة معدلات الجرائم والاغتصاب والتحرش".

ترى لمياء أن المساهمة في عدم خلق مزيد من البشر للحياة أكثر رحمة من تتابع ما تصفه بسلسلة العذاب: "نحن نعيش معاناة ضخمة في تلك الحياة ونتعذب فيها وكثير منا يتمنى الموت أو ألا نولد من البداية، فأي منطق يجعلنا نجلب مزيد من البشر يعانون نفس المعاناة؟".

تعتقد الفتاة الثلاثينية بأن تفريغ شحنات الأمومة ممكن أن يوظف تجاه الأطفال الأيتام، الذين جلبهم آخرون إلى هذا العام البائس وتركوهم بمفردهم: "تبني الأطفال الأيتام أكثر نبلًا من جلب المزيد من الأفراد يتلاطمون في دوامة الحياة القاسية".

تؤكد دراسة علمية أجرتها دائرة إدارة الزراعة في الولايات المتحدة خلال عام 2017، ضرورة اتخاذ اللا إنجابية بعين الاعتبار، لأن تربية طفل واحد تصل إلى ربع مليون دولار وسطيًا لعائلة متوسطة الدخل، ذلك على مدار السنوات الثمانية عشر الأولى من عمره.

وخلصت إلى أن الإنجاب بكثرة سيخلق معاناة مالية لكل من الأطفال والأهل، والإنجاب بأعداد كبيرة بمراحل مبكرة من الحياة كما يحدث في المجتمعات العربية بكثرة، قد يكون سببًا في انخفاض مستوى الإنجاز الفردي، إذ أن الوالدين يوزعان حياتهما بين التربية والإعالة المالية بشكل يلغي حياتهما.

زاوية آخرى من الخوف تقتنع بها إيمان إبراهيم، مطلع الثلاثينات، وهي الفشل في التربية السليمة للأطفال، فتكون هي سببًا في إخراج مزيد من العناصر الفاسدة في المجتمع لذلك آثرت أن تكون لا إنجابية أفضل من الفشل الذي يروادها، لاسيما مع الضغوط الاقتصادية والمادية التي تعوق دون تحقيق التربية الإيجابية.

تقول: "لن أسامح نفسي إذا فشلت في تربية طفل جلبته بمحض إدراتي إلى هذا العالم، فأصبح متحرش أو مغتصب أو مدمن أو أقبل على جرائم لا ذنب لآخرون فيها، العالم لم يعد يحتمل مزيد من السوء لذلك لن أنجب أطفال هناك احتمالية 1% أن يكونوا عناصر سيئة".

يعرف الدكتور محمد مهدي، أستاذ الطب النفسي، الـ Antinatalism بإنها توجه فلسفي وليس علمي، تنبع للشخص من تجربته السيئة وربما القاسية في الحياة والتي لا يريد من وجهة نظره تكرارها، على اقتناع بأنه لا يوجد سعداء على الكوكب.

مهدي يوضح أن هناك فارق بين اللا إنجابية واللا جنسية، الأولى تعني الزواج دون إنجاب منعًا لخوض آخرون نفس التجارب القاسية، والثانية تعني الخوف من ممارسة الجنس لأسباب آخرى، مشيرًا إلى أن أول ظهور لفكرة اللا إنجابية كانت قديمًا في اليونان ثم انتشرت تلك الثقافة في المجتمعات.

يقول أستاذ الطب النفسي: "اللا إنجابية هي من الأفكار غير المعتادة في المجتمعات العربية، لذلك تواجه الفتيات اللا إنجابيات ضغوطًا مجتمعيًا شديدًا لعدم تقبل مجتمعات عربية تتسم بكثرة الإنجاب فكرة عدم التناسل أو إيجاد شخص آخر يقتنع بنفس الأفكار".

ذلك ما عانت منه نجلاء محروس، منتصف الثلاثينات، بعد رحلة بحث عن رجل لا إنجابي يقتنع بتلك الفلسفة إلا أنها فشلت في ذلك كما تقول: "لم أجن سوى الإصرار على قناعتي والمزيد من الضغوط المجتمعية من أهلي ومن حولي إلا أنني في النهاية لم أجد رجل لا إنجابي يؤمن بتلك الفلسفة".

تضيف: "اللا إنجابية فلسفة واقعية تستحق التبني والانتشار، لأنها تبعد عن أوهام الحياة السعيدة التي نسعى إليها جميعًا منذ ملايين السنوات ولم نستطع الوصول، ورغم ذلك نحاول جلب آخرون يعيشون معاناة البحث عن السعادة وهمية".

تقنتع نجلاء بأن التبني هو الحل الأفضل من جلب مزيد من الضحايا للعالم، لذلك تبنت طفلًا يتيمًا منذ خمس سنوات ولازالت تعيش معه بمفردها، فالرجال لا يتنازلون عن فكرة إنجاب الأطفال بحسب نجلاء التي تقول: "لا متسع من البوساء في هذا العالم". 

جانب آخر للا إنجابيات كشفته دراسة أجراها الباحث الياباني الدكتور "ساتوسى كانازافا"، المتخصص في علم النفس التطوري بجامعة لندن، حيث وجد علاقة تربط بين ذكاء المرأة ورغبتها في الإنجاب، فقد لاحظ أنه مع زيادة معامل الذكاء لدى المرأة بمقدار 15 نقطة، فإن رغبتها في الإنجاب تنخفض بنسبة 25%.

وعلّلت الدراسة ذلك بإن المرأة الذكية على ما يبدو لا تمتلك الرغبة في مواصلة الخطوات الروتينية للوصول للهدف النهائي من الوجود البيولوجي، ويرجع ذلك إلى أن النساء الذكيات تكن احتمالية مواصلة تعليمهن العالي أكثر من غيرهن.

وكان السبب الأكثر انتشارًا بين النساء عينة الدراسة اللاتي يرفضن فكرة الإنجاب، هو أن العالم لم يعد يسع المزيد من الضيوف الجدد الذين سيواجهون نفس المعاناة، وأن تكرار سيناريو المعاناة في تلك الحياة القاسية ليس منطقي وليس في صالح البشرية.

ذلك ما تؤمن به دعاء حجازي، عشرينية، وحديثة المعتقد بفلسفة اللا إنجابية، والتي بجانب قناعتها بعدم جلب مزيد من المعاناة للآخرون، فهي ترى أن الأطفال يكونون عائقًا أمام الأبوين في تحقيق ذاتهما أو سير الحياة بشكل طبيعي.

تقول: "بالتأكيد المرأة المتفرغة لعملها وحياتها غير التي تعول طفل أو أكثر مهما توفرت لها كل سبل الراحة والمساعدة، لأن الأطفال مسؤولية تحتاج إلى تركيز شديد، فإما تختار المرأة بين حياتها ونجاحها وبين تربية الأطفال".

 

لا زالت لمياء تعيش بمفردها وتواجه ضغوطًا مجتمعية، بينما إيمان تخشى إنجاب عنصر فاسد في المجتمع يزيده سوءً، أما نجلاء فقد وجدت السعادة مع طفلها بالتبني، ولازالت دعاء مستمرة في رحلة نجاحها العملية رافضة فكرة الإنجاب.

 

جميع أسماء النساء المستخدمة في التقرير مستعارة بناء على رغبتهن وحفاظًا على وضعهن الاجتماعي