رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دو ري مي فطوطة ... رحلتي إلى أرض العجائب

ديسمبر 1988

عالم من السحر، حيث كل شيء ممكن، تتلاشى حدود المعقول، فنصبح أكثر خفة وسعادة، هنا أستطيع أن أكون ما أريد وقتما أريد، هكذا شعرت لدى عبوري بوابة مبنى الإذاعة والتليفزيون، طفل لم يتجاوز بعد عامه العاشر، وكأني "أليس " تعبر إلى أرض العجائب من مرآة.

كنت ضمن فوج مدرسي تم اختياره دون عناية، وبعبثية شديدة، للمشاركة في استعراض " دو ري مي فطوطة " الذي تم إذاعته على شاشة التليفزيون المصري عام 1988، بطولة الفنان الراحل "سمير غانم".. ورغم عبثية اختيارنا كمجموعة غير متناسقة الأبعاد والملامح، إلا أني مازلت أتذكر جيداً تلك اللحظة التي وقع فيها اختيار مدرسة النشاط على شخصي لأكون من ضمن المختارين، وكأن القدر هو من اصطفاني، لأقابل نجم جيلنا "فطوطة"، أشهر شخصيات عالم الفوازير في ثمانينيات القرن الماضي، حينما كانت البساطة والإخلاص كفيلان بخلق أسطورة.

أروقة مبنى التليفزيون، بدت لي كممرات قصور الحواديت، وجوه تبتسم لنا بترحاب، نعرفهم جيداً، فقد شاهدناهم في مسلسلات أو أفلام، وإن كنا لا نفقه أسماءهم.. كنت أنتظر بشغف حقيقي أن أقابل "سمير غانم" فقد أدركت منذ عهد قريب أن شخصية فطوطة وسمورة ما هما إلا إنعكاس لشخصية واحدة.. كيف ستكون ملامحه وحجمه الحقيقي، قزم كفطوطة أم بشري مثلنا كسمورة..أسئلة كثيرة تليق ببساطة تفكيرنا آنذاك، بساطة لن يدركها الأجيال الجديدة التي سقطت في خطيئة الوعي المبكر.

الاستعراض كان من تلحين "سمير حبيب" من أشهر فناني جيله، ملحن أشهر أغاني داليدا "أحسن ناس"، والأهم المبتكر الحقيقي لشخصية "فطوطة".. مصمم الاستعراضات "حسن عفيفي" أشهر مصممي استعراضات في مصر، الذي وقفت أمامه مبهوتاً برشاقته، وجمال طلته، وجدية ملامحه، التي لا تخلوا من ابتسامة خفية.. والإخراج للكبير "فهمي عبد الحميد"، الذي كان يأتينا صوته عبر الــ"الكنترول رووم ".. وكأنه صوت آت من السماء، مهيب ولكنه ساحر.. جيل كامل من العمالقة.. لم أدرك قيمتهم في ذلك التوقيت، ولكن أدركت بذهني الطفولي أني أمام حدث جلل.. الأستوديو، الإضاءة، البروفات التي أرهقت طفولتنا، وضحكاتنا التي أفسدت التصوير مراراً، كافتيريا التليفزيون، عدونا في الأروقة بلا سبب، وسمير غانم.

تختلط في ذهني صورة سمير غانم الحقيقية، فهل هو ذلك الأصلع نجم ثلاثي أضواء المسرح، نجوم السيتينيات، أم هو ذلك الوسيم ذو الشعر الأسود الأنيق، كوميديان جيلنا بلا منازع، أم فطوطة أشعت الرأس غير مهندم الملبس، الذي احتل طفولتنا احتلالاً جميلاً.. أم هو كل هؤلاء.. تلك الحيرة ظلت ملازمة لشخص سمير غانم إلى نهايته، عبثيته المتقنة ، أم إتقانه الشديد لكل ما يقدمه حتى وإن بدا عبثاً.

سخريته الفطرية على كل ما نأخذه نحن بجدية شديدة،منحت للحياة مذاق مختلف في مصر، سنوات طوال استخدمنا فيها سخريته اللاذعة لتحمينا من قسوة الواقع، حفظنا ارتجاله على خشبة المسرح  والتليفزيون وكأنه حقيقة معدة مسبقاً، انتظرنا طويلاً حتى ندرك أن سمير غانم لم يكن يدعي أو يمثل دور الكوميديان العابث، بل حقيقياً حتى النخاع.. مصر في تلك المرحلة كانت تحتاج إلى كوميديان يعود بنا إلى طفولتنا المجردة من كل معاناة وألم.. فهو العالم العجيب الموازي لعالمنا الواقعي، نهرب إليه عندما نعدم الحيلة.

انتظرت طويلاً في الاستديو بعد انتهاء دورنا في الاستعراض، حتى ألتقي بفطوطة الذي كنا نحاوره أثناء التصوير وكأنه بيننا، لكنه لم يحضر، وعلمت أن حضوره لن يتعدى مجرد ألاعيب إخراجية، يمارسها آبانا في غرفة التحكم، والذي كان يأتينا صوته من آن لأخر، فانسحبت منهزماً بعد إلحاح من مدرسة النشاط، حتى ألحق ببقية زملائي، لنعود ثانية إلى عالمنا الواقعي، فقد انتهت الرحلة إلى أرض العجائب. 

ولكن وفي غفلة من الزمن، وفي نهاية الرواق المنتهي بباب الخروج، رأيت فطوطة يبتسم لي بترحاب طفولي جميل، كان مثلما حلمت أن أراه، وتعودت أن أشاهده على شاشة التلفاز، قصير القامة، طفل مثلنا ، لكنه لا يكبر، لوحت له بيدي في سعادة مباغتة تملكتني، فازدادت ابتسامته صفاءً، وكأنه يقدم لي وداع يليق بانتظاري، فوداعاً فطوطة.