رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنتونى هوبكنز.. أساطير الحافة والظلال «1-4»

 

أن تفعل ما لا يتوقعه الآخرون، قد لا يعنى أكثر من أنك تحررت من مراياهم، وأن مرآتك تكفيك، فتصير خفيفًا كما ريشة، رقيقًا كما جدول ماء، وتلتقط روحك موسيقى الكون فتدور وتدور وتدور حول كعبتك مخلصًا لأبديتك.. وبينما يتوقع الجميع أن يحضر النجم العجوز حفل الأوسكار، فهو أحد الأربعة المرشحين لنيل جائزة أحسن ممثل، ستكون لأنتونى هوبكنز طريقته الخاصة فى التعبير عن رضاه أو سعادته بالجائزة، سيذهب إلى مسقط رأسه جنوب ويلز، ويزور قبر والده «ريتشارد هوبكنز» الخباز الذى لم يحصد خيبة أمل كبيرة وهو يرى ولده الوحيد لا يفعل شيئًا بشكل صحيح، سواء فى صناعة الخبز والكعك أو فى المدرسة. 

هل يعادل تمثالا الأوسكار اللذان فزت بهما الكئوس الفضية للخبز والكعك التى فاز بها أبوك وجدك؟ ربما نعم، وربما لا. قيمة الأشياء دائمًا متغيرة، والإنسان يختار دائمًا الأيسر الذى يجعل الحياة تستمر.

كتب هوبكنز على صفحته على تويتر: «ريتشارد هوبكنز، والدى الحبيب، يستريح فى سلام أبدى..».

وعبر الفيديو الذى سجل تلك اللحظات الخاصة، استرجع أمام قبر والده قصيدة الشاعر الويلزى ديلان توماس: «لا تمض بهدوء فى ذلك الليل البديع، على المسن أن يشتعل ويحتد فى نهاية اليوم، عليك أن تثور، وتثور ضد انحسار الضوء»، لكن لم يستطع تكملة كل مقاطع القصيدة، بعد أن تغلبت عليه عواطفه، قائلًا: «يا إلهى، لا أستطيع، إنها مؤلمة للغاية».

نعم هى مؤلمة.. فما تطلبه القصيدة من كبار السن أن يحاربوا الموت بشجاعة، وألا يمضوا معه فى هدوء واستسلام. على الرغم من أن الموت أمر لا مفر منه، فإنّ الحياة تستحق أن نقاتل الموت بكل ما نملك من طاقة. وقد كتبها الشاعر ديلان توماس فى رثاء والده عام ١٩٥١، ومنذ ذلك الوقت أصبحت تلك القصيدة بروحها الثائرة «ثر ثر ضد انحسار الضوء»، هى قصيدة المقاومة والثورة فى الثقافة الغربية. 

وقد سبق أن سجل أنتونى هوبكنز القصيدة كاملة، ولكنه تعثر فى تكملتها، ليس أن تكملتها فقط مؤلمة، لكن لأنه وقد أصبح عجوزًا مسنًا فى الثالثة والثمانين اختبر من الحياة ما لم يجربه الشاعر الذى مات فى ريعان الشباب (١٩١٤-١٩٥٣)، وعرف كيف أن المسنين فى نهاية العمر يتصالحون مع الموت، وتنهار لديهم جدران الحياة، ويختلط فى عقولهم الأشخاص والأماكن والأزمنة والأحداث، ويعيشون حالة من الإنكار والتشبث بما يعتقدون أنه الحقيقة فى الوقت الذى تتآكل فيه الذاكرة وتبتعد الذكريات وتزداد الحيرة ويتشعب اللا يقين، وهذا ما نجح أنتونى هوبكنز فى توصيله لجمهوره فى فيلمه الأخير «الأب» THEFATHER الذى حصد عنه جائزة الأوسكار الثانية، بعد ٢٩ عامًا من حصوله على الأوسكار الأولى ١٩٩٢، عن دوره الأيقونة فى فيلم «صمت الحملان».

التجربة التى قدمها هوبكنز فى فيلم «الأب» اعتمدت على قدرته سبر أغوار الشخصية، وإضافة طبقات من خبرته التمثيلية إليها، حيث يأخذنا معه فى النفق المتعرج المظلم، حيث يتولد الأمل عند كل انعطافة، لكن العينين لن تلمسا سوى الظلام، ولن ينتظرنا فى نهاية النفق غير الظلام والألم.

فى المشهد النهاية، الذى أصاب جميع من شاهدوا فيلم الأب بالخوف والرعب وأوجع قلوبهم، حيث ينهار الأب ويرتد إلى مرحلة الطفولة ويبكى كطفل خائف مذعور يقف قريبًا من الباب، ينكمش على نفسه وينادى: ماماى، أريد مامى، أريد الخروج من هنا، هل سيأتى أحد ويأخذنى.. لا لا، أريد أمى أن تأخذنى.

تستفسر الممرضة: مالأمر أنتونى؟

- أشعر أننى أفقد كل أوراقى. 

- ماذا تعنى؟

- الأغصان والرياح والمطر. لم أعد أعرف ماذا يحدث، هل تعلمين أنتِ ماذا يحدث؟ لم يعد لى مكان أضع رأسى فيه.

يحافظ هوبكنز بمهارة ملاح إنجليزى على توازن دفة الفيلم، فلا يجنح للمبالغة، حتى فى مشهد انهياره لن يستطيع حتى أكثر الأشخاص لامبالاةً وسخريةً سوى الصمت أمام رهبة الحيرة والتيه اللذين يجسدهما هوبكنز.