رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرية الدينية فى الإسلام.. كيف منحنا الله حرية الإيمان؟

عبدالمتعال الصعيدى
عبدالمتعال الصعيدى

هذا الكتاب طُبع لأول مرة عام ١٩٥٥، وهو «دُرة» كتابات عبدالمتعال الصعيدى، وهذا لأن مضمونه يحوى جوهر مشروعه الذى جاهد فيه لتفعيل واستمرارية باب الاجتهاد، وتجديد علم أصول العقيدة، وتحديث آليات الدعوة والمواجهة والنقد، فضلًا عن أهمية القضية التى تناولها، ألا وهى: تجديد فقه الحدود، والحكم على المرتد، تلك القضية التى ما زالت أصداؤها تتردد فى كتابات المحافظين والمجددين على حد سواء.

وعبدالمتعال الصعيدى «مُجدد كبير»، أثرى المكتبة المصرية والعربية بكتابات فى منتهى الأهمية، وزخرت حياته بعشرات المعارك الأدبية والفكرية حول قضايا الأدب وتاريخه وعلوم البلاغة والفصاحة والإعجاز البيانى للقرآن والوحدة الإسلامية وسيرة النبى وحقيقة الأصولية الإسلامية، وتجديد علم الكلام وفقه الحدود والحب العذرى فى الإسلام.

وهذا الكتاب كان واحدًا من هذه المعارك، فهو بالأساس مناظرة بين الشيخ عبدالمتعال الصعيدى والشيخ عيسى منون، أثبت فيها الأول أن أصول الشريعة الإسلامية لم تكن قط مناهضة للحرية الإنسانية ولا معادية لحرية البوح والعقيدة.

فلقد حفل النصف الأول من القرن العشرين بعشرات المساجلات والمناظرات والمحاولات النقدية حول العديد من القضايا بين الجامدين من شيوخ الأزهر من جهة، وكان عيسى منون- عضو لجنة كبار العلماء- واحدًا منهم، وبين المحافظين المستنيرين من المجددين من جهة ثانية، وغلاة المستشرقين من جهة ثالثة، والمتشبعين الغربية من جهة رابعة.

أما كيف بدأت هذه المناظرة؟.. فالقصة أن الشيخ عيسى منون اعترض على اجتهادات الشيخ الصعيدى، التى كان يطرحها على صفحات مجلة السياسة الأسبوعية منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضى، والكتاب- الذى نحن بصدده- فى مجمله لا يخرج عن نطاق وقائع مساجلة كلامية بين هذين الشيخين.

ويذهب عبدالمتعال الصعيدى فى مقدمة كتابه إلى أن التجديد والاجتهاد من السنن التى فطر الله عليها العقل، وصرح بأن الهدف الذى يرمى إليه من نشر هذا الكتاب هو إثبات أن الحرية الدينية مكفولة شرعًا، وهى شرط من شروط الإيمان، وهى ملجأ فى الوقت ذاته للمتشككين والمرتابين فيما يعتقدون.

عجز الأزهر الحديث عن تخريج مثل الشيخ محمد عبده

كان الشيخ محمد عبده- رحمه الله- فلتة فى الأزهر القديم، وهو الأزهر الذى كان لا يعرف إلا العلوم الأزهرية القديمة، وقد جاء الأزهر الحديث بعد الأزهر القديم، فدرّس العلوم الحديثة مع علومه القديمة، وكان من الواجب أن يكون أحسن حالًا فى البُعد عن الجمود من الأزهر القديم، وأن تفلت منه فلتات من أمثال الشيخ محمد عبده، لا فلتة واحدة فقط، ولكنه عجز إلى يومنا عن فلتة واحدة من أمثاله، وبقى الجمود ضاربًا أطنابه، بين جدرانه، فلا ترضى مجلته بعد أن مضى على وفاة الشيخ محمد عبده نحو سبعين سنة إلا الجمود على التفسير القديم لتلك الآية، (لا إكراه فى الدين)، وإلا أن تتهكم بما يسمى الحرية الدينية فى الإسلام أو حرية الاعتقاد، وإلا أن تقر ما أقره الجمهور من أنه لا حرية فى الدين، وإنما هو الإكراه بالسيف لمن أبى الدخول فيه.

فهى تدعى على لسان الشيخ عيسى منون أن ما ذكرته من أن الإسلام جاء بالحرية الدينية غير صحيح على إطلاقه، لا بالنسبة للمسلمين، ولا بالنسبة للكفار، أما المسلمون فقد تقرر فى الشريعة عقوبات رادعة فى الدنيا من حدود وتعازير لكل من تعدى منهم حدود الله، فتارك الصلاة يعاقب بالقتل أو الحبس، ومانع الزكاة تؤخذ منه قهرًا، فإن كان له منعة وقاتل يقاتل، وهكذا، فأين الحرية الدينية لهم؟ وأما الكفار فإن كانوا من أهل الكتاب وأمثالهم فالمطلوب منهم إما الإسلام وإما دفع الجزية احترامًا لأصل دينهم، وإن كانوا من غيرهم فالمطلوب منهم الإسلام فقط، فأين الحرية الدينية المطلقة لهم؟

وهذا خلط عجيب من الشيخ عيسى منون فى الحرية الدينية للمسلمين؛ لأن الحرية الدينية لهم، معناها حرية الرأى، لا إبطال الحدود والتعازير؛ لأن إبطال الحدود والتعازير فوضى لا حرية، لما يترتب عليه من إباحة الجرائم، أما حرية الرأى فهى حرية الاجتهاد التى جاء بها الإسلام؛ لأنه لم يفرض على الرأى عقوبة من العقوبات، بل جعل لمن أخطأ فيه أجرًا، ولمن أصاب فيه أجرين، حتى لا يكون فى الرأى وسيلة من وسائل الإكراه، وهذه هى الحرية الدينية التى جاءت فى حديث «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد»، فكيف يتساءل الشيخ عيسى منون بعد هذا ويقول: فأين الحرية الدينية للمسلمين؟

وكذلك ما ذكره الشيخ عيسى منون بالنسبة للكفار؛ لأنه ينفى الحرية الدينية لهم بناءً على جموده على الرأى القديم من أن القتال فى الإسلام لإكراه الناس على الدخول فيه، لا لحماية الدعوة ممن يريد فتنة الناس عنها بوسائل الإكراه، وهذا ما يسمى فى علم المناظرة بالمصادرة على المطلوب؛ لأننا لم نسلم له ذلك حتى يلزمنا به، فنحن نرى أن القتال فى الإسلام لحماية الدعوة، لا لإكراه الناس على الدخول فيها، وعلى هذا يكون الكفار أحرارًا فى دينهم إذا لم يقاتلونا، ولا يجب علينا إلا تبليغ الدعوة إليهم، فإن أسلموا نجوا من عقاب الآخرة، وإن لم يسلموا لم ينجوا منه، وإذا قاتلونا قاتلناهم لحماية دعوتنا منهم، لا لإدخالهم فيها، فإذا انتصرنا عليهم لم نكرههم على الدخول فى الإسلام، لأن قتالنا لهم كان ردًا على قتالهم لنا، لا لإدخالهم فى ديننا، وهذه هى الحرية الدينية بأوسع معانيها لهم، ولا يصح إنكارها إلا من الشيخ عيسى منون وأمثاله من الجامدين على القديم، ولا يمكنهم أن يحملونا على الجمود عليه مثلهم.

وقد ادّعت المجلة أيضًا على لسان الشيخ عيسى منون أن ما ذكرته من أن الدعوة فى الإسلام إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة غير صحيح على إطلاقه؛ لأنه إذا لم تفد الحكمة والموعظة الحسنة وعاند الكافر ولم يسلم ولم يدفع الجزية- إن كان من أهل الكتاب- أو وقف فى سبيل الدعوة على الرأى الحديث، فماذا يكون الحال؟ أيترك حرًا ولا يقاتل أم يقاتل؟

وجواب هذا السؤال عند الشيخ عيسى منون أنه يقاتل وهو مصادرة على المطلوب أيضًا؛ لأنه مبنى على الرأى القديم الذى يجمد عليه، وهو أن الإسلام جاء بالقتال لإكراه الناس على الدخول فيه إذا لم تفد فيهم الحكمة والموعظة الحسنة، ونحن نخالفه فى هذا، كما سبق، فإذا لم تفد الحكمة والموعظة الحسنة فى الكافر نتركه لعقاب الله تعالى فى الآخرة، ولا نكرهه على الدخول فى الإسلام بوسيلة من وسائل الإكراه، وإذا وقف فى سبيل الدعوة، كما ذكر الشيخ عيسى منون فلا يخلو حاله من أمرين: إما أن يقف فى سبيل الدعوة بالجدال فى صحتها، وإما أن يقف فى سبيل الدعوة بقتالها، فإن وقف فى سبيل الدعوة بالجدال جادلناه فيها بالتى هى أحسن، كما أمرنا بهذا فى القرآن الكريم، وإذا وقف فى سبيلها بالقتال قاتلناه لحمايتها منه، لا لإدخاله فيها كرهًا، وبهذا يتعين ما ذكرت من أن الدعوة إلى الإسلام إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة. 

التوفيق بين آية «لا إكراه فى الدين» وآيات القتال

وبعد، فملخص الأمر بيننا وبين الشيخ عيسى منون فى الآيات التى تنفى الإكراه فى الدين أنه يدّعى نسخها أو تخصيصها أو تأويلها بآيات وأحاديث يفيد ظاهرها خلافها، ونحن نرى أن هذه الآيات والأحاديث لا تخالفها، فلا تكون هناك حاجة إلى نسخها أو تخصيصها أو تأويلها، فأما الآيات التى يدّعى الشيخ عيسى منون مخالفتها تلك الآيات فهى آيات القتال، وقد سبق أن هذه الآيات لا تخالفها؛ لأن القتال جاء فيها لحماية الدعوة، لا لإكراه الناس على الدخول فيها، ومن هذه الآيات قوله تعالى: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز» (الحج ٣٩ -٤٠) وهى أول آية نزلت فى القتال، فلم تفد أنهم أُذن لهم فى القتال ليدخلوا الناس كرهًا فى الإسلام، وإنما أفادت أنهم أُذن لهم فى القتال بعد قتالهم لهم، وإخراجهم لهم ظلمًا من ديارهم، ومحاولتهم بالقتال ونحوه فتنتهم عن دينهم، وهذا هو القتال لحماية الدعوة، لا لإدخال الناس كرهًا فيها.

وكذلك قوله تعالى: «وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» (التوبة ٣٦)، لا يفيد إلا أن قتالنا لهم فى مقابلة قتالهم لنا، ولو كان القتال لأجل إدخالهم فى الإسلام لم يقيده هذا التقييد؛ لأننا نقاتل من أجله من قاتل ومن لم يقاتل.

وكذلك قوله تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين» (البقرة- ١٩٣)، فالمراد بالفتنة فيه فتنة المسلمين عن دينهم بالاعتداء عليهم بالقتال ونحوه، وقد سبق بيان المراد من قوله: «ويكون الدين لله»، ويؤيد هذا قوله: «فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين»، فإن الظاهر منه الانتهاء عن الاعتداء على المسلمين والنهى عن الاعتداء عليهم إذا انتهوا عنه، وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالفتنة فى الآية الشرك، ولا يخفى أن المعنى الأول هو الظاهر منها، ولو سلم أن المراد من الفتنة الشرك فإن هذا يكون خاصًا بمشركى مكة؛ لأن الضمير فى قوله: «وقاتلوهم» يعود عليهم بقرينة السياق قبل الآية وبعدها، ويكون هذا تخصيصًا من عموم آية «لا إكراه فى الدين»، فتبقى عامة فيمن عداهم من أهل الكتاب وغيرهم، على أن الحق أن قتال مشركى مكة كان ردًا على قتالهم، لا لإدخالهم كرهًا فى الإسلام، ويؤيد هذا أن النبى، صلى الله عليه وسلم، لمّا توجه إلى فتح مكة ونادى فى أهلها بالأمان قال: «من دخل الكعبة فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل داره وأغلقها عليه فهو آمن»، ولم يذكر أن من أسلم فهو آمن؛ لأنه لم يرد بقتالهم أن يكرههم على الإسلام حتى يؤمنهم بالدخول فيه، وإنما أراد فتح مكة للمسلمين ليحجوا إليها ويؤدوا مناسكها، ويطهروها من الأصنام التى وضعت فيها، ويعودوا بها إلى ما كانت عليه من التوحيد فى عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وإذا كان أهلها قد دخلوا فى الإسلام عقيب الفتح، فقد دخلوا فيه طوعًا لا كرهًا، بدليل أن بضعة وثمانين منهم بقوا على شركهم، فلم يكرههم النبى، صلى الله عليه وسلم، على الدخول فى الإسلام، وقد أرادوا الخروج إلى غزوة حنين فأخرجهم معه، وأعطاهم من الغنائم مثل ما أعطى المسلمين، بل ضاعف العطاء لبعضهم، حتى دخل فى الإسلام لما شاهده من سماحته، ولم يدخل فيه مكرهًا بسيف ونحوه، فإذا أردنا تفسير آية «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة» على هذا الواقع، فإنه يجب حمل الفتنة فيها على فتنة المسلمين عن دينهم لا على الشرك؛ لأنه لو كان الأمر بقتالهم لأجل شركهم لأدخلهم فى الإسلام كرهًا عقيب الفتح، ولم يقبل من بقى منهم على الشرك، وقد طلب صفوان بن أمية منه بعد أن أمنه- وكان قد هرب منه- أن يبقيه على الشرك شهرين، فقال له: «أنت بالخيار فيه أربعة أشهر»، وكانت لصفوان بن أمية حالة خاصة به، لأنه كان ممن أهدر النبى، صلى الله عليه وسلم، دماءهم فى غزوة الفتح لأسباب خاصة بهم، كما حصل من صفوان بن أمية حين أرسل إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، عقب غزوة بدر ابن عمه عمير بن وهيب ليقتله، فأهدر دمه فى غزوة الفتح من أجل ذلك، وقد أسلم طوعًا فى غزوة حنين لما رأى من كرم النبى، صلى الله عليه وسلم.

التوفيق بينها وبين أحاديث القتال

أما الأحاديث التى وردت فى القتال فإن أشهرها حديث «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» وهو لا ينافى آية «لا إكراه فى الدين» أيضًا؛ لأن «ال» فى الناس الواردين فيه ليست للاستغراق قطعًا؛ لأنهم متفقون على إخراج أهل الكتاب منهم، وهناك من يذهب إلى إخراج مشركى غير العرب منهم أيضًا، فيكون حكمهم مثل حكم أهل الكتاب فى عدم الإكراه على الإسلام، ويبقى الحديث فى مشركى العرب وحدهم؛ لأنهم قاتلوا النبى، صلى الله عليه وسلم، وأمعنوا فى خصومته، فكان إسلامهم وحده هو الذى يقضى على هذه الخصومة، وهذا إلى أنه أريد كما سبق جعل جزيرة العرب وطنًا خاصًا للمسلمين؛ ليجمعهم الإسلام على كلمة واحدة، ويقضى على أسباب تفرقهم وتشاحنهم فى الجاهلية، ويجعلهم أمة واحدة لا قبائل متعددة، فقد كان الإسلام هو الوسيلة الوحيدة للقضاء على هذه الحياة القبلية، وعلى ما كان فيها من جهالات وآثام، ولا شىء فى إكراههم على الإسلام من أجل هذه الغاية الشريفة، غاية نشر الأمن والسلام فى جميع أنحاء هذه الجزيرة.

على أن هناك دقيقة فى الحديث لم يتنبه أحد إليها، وهى أن الحديث إنما يكون نصًا فى أن القتال فيه لأجل الإدخال فى الإسلام إذا كانت «حتى» فيه تعليلية لا غائية، مع أن حتى فيه يجوز أن تكون غائية لا تعليلية، ويكون المراد بالناس فيه المقاتلين للمسلمين، بدليل ما سبق من الآيات الواردة فى القتال، ولا يكون فى الحديث إلا الاقتصار على أحد أسباب انتهاء القتال بين الفريقين، وهو الدخول فى الإسلام، لا، لأن القتال كان من أجله، بل لأنه لا معنى للقتال بعد خضوعهم به، وبهذا يكون قتال المقاتلين فى الحديث لأجل إخضاعهم، لا لأجل إسلامهم، فإذا حصل الخضوع بغير الإسلام من الجزية أو نحوها قام مقام الإسلام، وانتهى به القتال أيضًا، وهذا هو الذى جاء فى قوله تعالى: «فقاتل فى سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا» (النساء ٨٤)، فقد بيّن أن الغاية من قتالهم كف بأسهم فقط، وهذا يكون بإسلامهم وبغيره من أسباب خضوعهم، وكذلك قوله تعالى: «فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا» (النساء ٩٠)، يفيد أيضًا أن قتالهم إنما هو لكف بأسهم، فإذا خضعوا وألقوا السلم فلا سبيل لنا عليهم، ولو كان قتالهم لأجل الإسلام لما أُمرنا بالكف عنهم بمجرد إلقائهم السلم واعتزالهم القتال، بل وجب أن نمضى فى قتالهم حتى يسلموا، وحينئذ يكون جعل «حتى» فى الحديث غائية لا تعليلية، واجبًا لا جائزًا، كما سبق؛ لأن القتال فى الإسلام ليس من أجل إدخال الناس فيه كرهًا، وإنما هو من أجل حماية الدعوة، وكف بأس الكفار عن المسلمين ولا يكون بعد هذا فى الحديث إلا نوع من الاكتفاء، وكأنه قال: «حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يجنحوا إلى السلم». 

التسوية بين المشركين مطلقًا وأهل الكتاب فى الجزية

ومن العلماء من يجعل حكم مشركى العرب فى ذلك كحكم أهل الكتاب ومشركى غير العرب، والحديث يحتمل ذلك أيضًا، لأنه إذا خص القتال فيه بمن يقاتلنا فقط، وكان القتال لأجل كف بأسه، لا لأجل إدخاله فى الإسلام، فإنه لا يفيد شيئًا من الإكراه على الإسلام، ومع هذا لا يحتاج إلى حمله على مشركى العرب لأجل تصحيح ما يفيده من الإكراه، لأنه على هذا لا يفيده أصلًا، فلا نحتاج إلى من نحمله عليه من مشركى العرب وغيرهم.

وقد استدل من ذهب إلى التسوية بين المشركين مطلقًا من عرب وغيرهم وبين أهل الكتاب فى جواز أخذ الجزية منهم وعدم إكراههم على الإسلام بما روى عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن عائشة قالت: «كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه فى خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا على اسم الله، قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال: فأيهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم بأنهم يكونون كأعراب المسلمين ولا يكون لهم فى الغنيمة والفىء شىء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمتك، فإنكم إن تخفروا ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله، وإذا أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل، بل على حكمك، فإنك لا تدرى أتصيب فيهم حكم الله تعالى أم لا».

فقد ذكر صاحب «سبل السلام» أن هذا الحديث يدل على أن الجزية تؤخذ من كل كافر، كتابى أو غير كتابى، عربى أو غير عربى، لقوله «عدوك» وهو عام، وإلى هذا ذهب مالك والأوزاعى وغيرهما، وذهب الشافعى إلى أنها لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، عربًا كانوا أو عجمًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» وما عداهم داخلون فى عموم قوله تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة» (البقرة ١٩٣) وقوله: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» (التوبة ٥)، واعتذروا عن الحديث بأنه وارد قبل فتح مكة، بدليل الأمر بالتحول والهجرة، والآيات بعد الهجرة، فحديث بريدة منسوخ أو متأول بأن المراد من «عدوك» أهل الكتاب. قال صاحب «سبل السلام»: «والذى يظهر عموم أخذ الجزية من كل كافر لعموم حديث بريدة، وأما الآية فأفادت أخذ الجزية من أهل الكتاب، ولم تتعرض لأخذها من غيرهم ولا لعدم أخذها، والحديث بين أخذها من غيرهم وحمل «عدوك» على أهل الكتاب فى غاية البعد. وإن قال ابن كثير فى «الإرشاد»: «إن آية الجزية إنما نزلت بعد انقضاء حرب المشركين وعبدة الأوثان، ولم يبق بعد نزولها إلا أهل الكتاب». قاله تقوية لمذهب إمامه الشافعى، ولا يخفى بطلان دعواه أنه لم يبق بعد نزول آية الجزية إلا أهل الكتاب، بل بقى عباد النيران من أهل فارس وغيرهم، وعباد الأصنام من أهل الهند، وأما عدم أخذها من العرب فلأنها لم تشرع إلا بعد الفتح، وقد دخل العرب فى الإسلام ولم يبق منهم محارب، فلم يبق فيهم بعد الفتح من يُسْبَى، ولا من تضرب عليه الجزية، بل من خرج بعد ذلك عن الإسلام منهم، فليس إلا السيف أو الإسلام، كما هو الحكم فى أهل الردة، وقد سبى النبى، صلى الله عليه سلم، قبل ذلك من العرب بنى المصطلق وهوازن، وهل حديث الاستبراء إلا فى سبايا أوطاس؟ واستمر هذا الحكم بعد عصره صلى الله عليه وسلم ففتح الصحابة- رضى الله عنهم- بلاد فارس والروم، وفى رعاياهم العرب، خصوصًا الشام والعراق، ولم يبحثوا عن عربى من عجمى، بل عمموا حكم السبى والجزية على جميع من استولوا عليه، ثم قال: «وبهذا يُعرف أن حديث بريدة كان بعد نزول فرض الجزية، وفرضها كان بعد الفتح، فكان فرضها فى السنة الثانية- يعنى بعد الفتح- عند نزول سورة براءة، ولهذا نهى فيه عن المثلة، ولم ينزل النهى عنها إلا بعد أُحُد»، وإلى هذا المعنى جنح ابن القيم فى «الهدى» ولا يخفى قوته.

ولا يخفى أن الشيخ عيسى منون يوافقنا فى أن آية «لا إكراه فى الدين» لم ينسخ حكمها فى أهل الكتاب، فإذا كان غير أهل الكتاب من مشركى العرب وغيرهم مثل أهل الكتاب عند من ذهب إلى ذلك تكون هذه الآية باقية على عمومها، ولا داعى إلى تخصيصها بأهل الكتاب، ولا إلى تأويلها بأن المراد من قوله: «لا إكراه» نفى الجبر الذى تذهب إليه الجبرية، ولا إلى غير هذا مما ينبنى على مذهب من يرى أن التخيير بين الإسلام والجزية خاص بأهل الكتاب، وأن من عداهم لا يُقبل منهم إلا الإسلام، فإن لم يسلموا أخذوا بالسيف، وهو المذهب الذى يحاجنا به الشيخ عيسى منون، ويتهكم على أساسه بدعوانا أن الإسلام هو الذى جاء بالحرية الدينية، وأنه سبق بها أهل أوروبا، ونحن لا نمنع الشيخ عيسى منون من الجمود على هذا المذهب المشهور، لأنه مذهب جمهور الفقهاء، ولكن ليس من حقه أن يمنعنا من الأخذ بقول ذهب إليه مالك والأوزاعى وغيرهما، ومالك هو أحد الأئمة الأربعة الذين يقدس الشيخ عيسى منون مذاهبهم، وكذلك الأوزاعى له إمامته التى لا تقل عن إمامتهم، ولقولهما بهذا قيمته فى عصرنا الذى يقدس حرية الاعتقاد، ويرى أنه لا يصح أخذ الناس فيه بشىء من وسائل الإكراه، فإذا أخذنا به فى الإسلام بعدنا به عن موطن القيل والقال، وجنبناه المخالفة لذلك الأصل الذى يأخذ الآن به جميع الأمم، ويضعه فى صلب دساتيرها، ليعيش الناس أحرارًا فى عقائدهم، ولا يكون لأحد سلطة فيها عليهم، ولا يكون هناك إلا حساب الله وحده فى الآخرة.

ويجب أن يتنبه إلى أن أخذ الجزية فى الإسلام إنما يكون ممن قاتلنا فقط، فإذا لم يقاتلنا لم يكن لنا أن نقاتله لنأخذ منه الجزية، بل لا يلزم أن نقاتل إلى أخذ الجزية ممن قاتلنا؛ لأنه إذا جنح للسلم قبل أن نتمكن من إخضاعه وجب علينا أن نجنح إلى ما جنح إليه من السلم، وأن نوادعه على ترك القتال من غير أخذ جزية منه، كما وادع النبى، صلى الله عليه وسلم، أهل مكة فى صلح الحديبية، فلم يأخذ منهم جزية ولا غيرها، بل قبل منهم شروطًا كانت قاسية على المسلمين، حقنًا للدماء، وكرهًا للقتال وإيثارًا للسلم، مما لا يراه الشيخ عيسى منون وأمثاله ممن يريدون إظهار الإسلام بخلاف هذا المظهر، ويرون أنه إنما جاء بالإذعان له أو السيف، وأنه يدعو الناس إليه والسيف مصلت فى يده، ليرهبهم ويفزعهم ويجعلهم يؤمنون به خوفًا منه، وهذا هو ما يطعن به الأعداء فى الإسلام، سواء بسواء، وهنيئًا للشيخ عيسى منون موافقته لهم فيه، ولا نسىء فيه ظننا، ولكن من الناس من يضر من حيث يريد النفع، فهو لا يقصد أن يضر، بل يقصد أن ينفع، ولكنه لا يعرف من أين يكون النفع.