رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ممر خفى بين السماء والأرض

أحمد مجدى همام
أحمد مجدى همام

ذات يومٍ، عندما كنت فى العاشرة أو الحادية عشرة من عمرى، فعلت مثل الجميع وأحببت بنت الجيران، غير أننى لم أجرؤ على مصارحتها بما يعتمل فى قلبى الصغير، واستعضت عن المواجهة بكتابة رسالة حب طفولية طويلة بدأتها بـ«بسم الله الرحمن الرحيم» واختتمتها بطلب الزواج منها، بيد أننى لم أرسلها أبدًا، لم يكن لدى ما يكفى من الجرأة لفعل ذلك، بقيت الرسالة مدفونة فى زاوية ما من غرفتى لفترة طويلة، شهورًا أو سنوات لا أستطيع التحديد، مضى على ذلك وقت طويل.. الذى حدث هو أننى وجدت الرسالة مرة بينما كنت أنظف ضلفة خزانتى، أعدت قراءتها، ثم فكرت فى التخلص منها، إذ هجر جيراننا الحى وأخذوا معهم البنت التى حرّكت قلبى.. مزّقت الرسالة إلى قطع صغيرة جدًا ثم رميتها من نافذة شقتنا فى الطابق السابع، لكن بعد نصف ساعة تقريبًا دَخَلت علىَّ من النافذة المِزقة التى كتبتُ فيها «بسم الله الرحمن الرحيم»، كدت أصاب بذبحة حين رأيتها تتهادى عبر إطار النافذة محمولة على أجنحة نسمة خفيفة، راحت تلتف حول محورها فى حركات سريعة واستقرت أمامى على المكتب، حيث أذاكر دروسى.. أنا أومن بالعلامات والإشارات، ربما منذ ذلك الوقت وثمة قناعة طفولية تجذّرت بداخلى بأن هناك ممرًا خفيًا بين السماء والأرض يسمح بتمرير بعض الرسائل بالاتجاهين: الدعاء والتضرُّع، من أسفل إلى أعلى، والإشارات والأحلام من أعلى إلى أسفل.

عضَّد تلك القناعة موقف آخر، حدث عقب سنوات من عودة «بسم الله الرحمن الرحيم»، كان ذلك عندما أراد ابن خالى، الذى يكبرنى بأعوام، أن يدعونى لشرب البيرة، التى كنت أراها معصية كبيرة، غير أن قريبى أقنعنى بأن عبوة بيرة واحدة لن تُدخلنى النار.. ركبنا الباص الحكومى متجهين إلى أقرب محل لبيع الكحوليات، كان على بعد أربع محطات، وكان الباص مكتظًا كالعادة، وفى المحطة الأخيرة قبل وجهتنا، صعد إلى الباص مقرئٌ شابٌّ ضرير من أولئك الذين يكسبون قوت يومهم من تلاوة القرآن بصوت عذب فى المواصلات العامة.. الشيخ، حالما استقر فى الباص بعد أن عاونه الركَّاب وأفسحوا له موطئ قدم، وقف بجانبى بالضبط، وتمسّك بالأسطوانة الحديدية المعلقة فى السقف، ثم رفع يمناه إلى جانب أذنه، وقال: «بسم الله الرحمن الرحيم.. إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه». وأنا، بدهشة طفلٍ فى السيرك، أطلتُ النظر فى عينى ابن خالى ثم قفزت من الباص بغتة بمجرّد أن تباطأت سرعته فى إحدى المناطق المزدحمة.

لماذا أحكى كل هذا لماجدة؟ لا أعرف، لقد أحيتْ داخلى تلك الذكريات البعيدة، ولم أستطع منع شلال الذكريات من التدفُّق حتى بعدما أنهينا مكالمتنا على وعد بلقاء قريب.. كان أبى يمتلك محلين لبيع العطور والزيوت وكل ما يمكنك أن تشمَّه، كبرتُ والروائح الطيبة تلف أجواء بيتنا، وأحببتُ منذ طفولتى أن أرافق الحاج إلى المحلَّين، كما كان هو يريد تجهيزى لخلافته فى الصنعة، لذلك حرص على مرافقتى إلى أشهر التجَّار المورِّدين للخامات الزيتية والعشبية التى يتاجر فيها، معلّمين فى الجامع الأحمر بباب الشعرية والأزهر ومصر القديمة.. وفى تلك المناطق العتيقة المنفصلة عن القاهرة الحديثة والأحياء قريبة التأسيس كالمعادى ومصر الجديدة، أو الأحياء الجديدة تمامًا مثل ٦ أكتوبر والعبور، أحب أبى حلقات الذكر وارتاد الطرق الصوفية، اختار شيخه واختاره الشيخ ومنحه خاتمًا فضيًا كبيرًا يتوسطه فصٌّ بلون الزبرجد، فصار يقضى أوقاتًا كثيرة فى مساجد سيدنا الحسين وستنا زينب والسيدة نفيسة وغيرها من مساجد المتصوِّفة، وخصص جانبًا من أرباح تجارته لإطعام الدراويش والبهاليل ذوى الخِرق والأسمال المنتشرين حول تلك الجوامع.. فى تلك الأجواء كبرت، أصحب أبى إلى التجَّار ثم أخوض معه جولته الليلية بين الجوامع الكبرى، والتى تنتهى بتناول وجبة مشويات عند الكبابجى الأقرب من آخر جامع نزوره فى الجولة، وأحضر معه الموالد، أشاركه فى نقل الوجبات التى يتبرع بها لإكرام وفادة أحباب وضيوف آل بيت رسول الله، وأحيانًا أنخرط معه فى حلقة ذكر من تلك التى يتمايل فيها المرتادون حتى يصلوا إلى حالة وجودية متسامية.. هل كانت تلك النشأة هى التى زرعت فىَّ ميلى للإيمان بالإشارات؟

كنت فى الثانية والعشرين عندما تمكن اعتلال الكبد من أبى وقتله، خريجًا طازجًا من قسم الإعلام بكلية الآداب فى جامعة حلوان، وكان قرار إخوتى معدًا سلفًا: تصفية تجارة أبى وتوزيع الميراث بالشرع، عارضتهم، إلا أن نتيجة التصويت كانت أربعة إلى واحد، انتصروا وفعلوا ما أرادوا، هكذا وجدتُ نفسى أمام خيارين، إما أن أستغل نصيبى من الميراث لفتح محل للعطور، أو أن أستغل شهادتى وأعمل بالصحافة.. مبدئيًا، قررت ألا أجازف بالمبلغ، وأن أمهل نفسى عامًا من التجريب مع صاحبة الجلالة، ثم تمدد ذلك العام وتضخم ليصبح أربعة عشر عامًا بالتمام والكمال، لقد انقضى ثلث عمرى فى هذه المهنة، لم أجنِ منها أرباحًا وفيرة لكنها سترتنى، عدا عن مجموعة مكتسبات اجتماعية وتأمينية وأدبية وقانونية وفَّرتها لى المهنة ونقابتها صاحبة التاريخ العريق فى مصر، لكنها شفطتنى بالمقابل، سهِّتنى ونشلت منى أربعة عشر عامًا، بالنهار أنخرط فى عملى النظامى فى صحيفتى، وبالمساء أنشغل بالعمل الصحفى الحر والكتابة لحساب مواقع ثقافية عربية تتوزع بين دول الخليج وبريطانيا وألمانيا وأمريكا.

شهدت هذه المسيرة الطويلة أوقاتًا جيدة وأخرى قاسية، غير أننى بقيت مستمتعًا باللعبة، منذ شغفت بدراسة الصحافة وحتى آخر مقال كتبته: النبش وراء الحقائق، دور السلطة الرابعة بصورتها المهيبة التى تعلَّمناها على أيدى أساتذتنا فى الجامعة وفى المهنة، وقد آمن بعض هؤلاء بى وبإخلاصى، وأتاحوا لى عبر اتصالاتهم ومعارفهم الكتابة لصحف ومواقع عدّة، كان آخرها ترشيح أحد أساتذتى لاسمى عند الصحفى السورى إياه.

فصل من رواية «موت منظّم» تصدر هذا الشهر عن دار هاشيت أنطوان.