رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرابحون والخاسرون فى سماء فلسطين

لم يكن المشهد الذى رُتب بعناية شعبية وطنية فلسطينية فى باحة المسجد الأقصى المحاصر، ومعه أحداث حى الشيخ جراح التى لم تقل ثباتًا فى عفوية وانضباط ردات فعلها، ينتظران فى أى من لحظات تطورهما الإيجابية- وقد تمكنا من غزل وصناعة مشهد فلسطينى جديد- أن يكون هناك من يرغب فى التقاط كرة الثلج من بين أقدام المصلين المثابرين المرابطين، كى يدفع بها بعيدًا من قمة جبل الزيتون الواقف شاهدًا على ما هو فلسطينى يولد أمامه، وما هو إسرائيلى محتل مأزوم من خلفه، لتتدحرج الكرة بعيدًا عن هذا الفعل الصادق إلى دروب السياسة والتوافقات، تجاه قائمة طويلة من حسابات المكسب والخسارة التى طمعت وخشيت منها كل الأطراف.

السلطة الفلسطينية القابعة فى رام الله على بُعد كيلومترات عديدة من الأحداث، والأقرب- منطقيًا وسياسيًا- لولاية ما يجرى، بدت كالمراقب أو على أفضل توصيف كالمسير للأحداث دون رؤية لا واضحة ولا متكاملة عن القادم، فالمشهد بطبيعته الإيجابية يصب فى صالح رصيدها السياسى قبل أن يكون وطنيًا لمجمل القضية الفلسطينية. 

كلا الحدثين رغم توافقهما مع أداء ورؤية السلطة و«حركة فتح» فى الوقت الراهن إلا أنها بدت متفاجئة بما يجرى أمامها وعلى عينها وبغالبيته من شبابها والأسر التاريخية من الانتماء لها، الحدثان بطبيعتهما اكتسبا طابع الامتداد الزمنى الهادئ الذى وفر للسلطة فرصة استيعابه، والتفاعل الذكى معه بعد استيعابه وتحديد مسارات تحقيق المكاسب من حصاده. 

لكن الكسل الاستيعابى شلَّ حركة أركان السلطة وبدأت مفاصلها تتثاءب فى اطمئنان وانصراف غريب غير مفهوم، حتى أغرت الطرف الآخر من المعادلة الفلسطينية كى يتقدم ليقتحم عرين الأحداث، طالما صاحب الولاية شاخ على مقاعد المتفرجين مستسلمًا لأكياس الرمال التى تقيد خطواته.

بدأت حركة حماس تخترق الأحداث وجغرافيًا الضفة الغربية، فى تسلل منظم استثمر هدوء الأحداث التى استمرت لأسابيع، ليظهر عناصرها فى صفوف المصلين رافعين أعلام الحركة المناقضة لأعلام فلسطين، والتف موالوها فى أحياء باب العمود والشيخ جراح براياتها وهتافات القسام وغزة الصمود!

فى هذه اللحظة فقط وعلى وقع تلك المشاهد، بدأت السلطة مرحلة الاستيقاظ الكسولة، معربة عن غضبها واستنكارها المتأخر من دخول حماس على خط استلاب المشهد من على الأرض، الأغرب أن هذا الاستيقاظ لم يفارق فراش النميمة الداخلية فيما بين أركان السلطة حول تهريب حماس لعناصرها ولافتاتها وأعلامها إلى تخوم الأحداث. 

لكن التجمد وتصلب شرايين الفعل حرما السلطة حتى من استغلال الأسبوع الأخير الذى بدت فيه هذه المتغيرات تطرق أبواب الأحداث، والتى كان يمكنها أن تبدل ملابس النوم سريعًا لترتدى زى الخروج ولو شكليًا أو إعلاميًا، مما قد يرتب لها مساحة لاحقة من الأمر فيما هو آت لا ريب فيه لأى متابع. لذلك ولغيره مما يطول الحديث بشأنه، خرج إسماعيل هنية مساء الثلاثاء، فى خطابه المتلفز، بعد ٢٤ ساعة من وصول «كرة الثلج» لمستقرها، كى يتحدث باسم الشعب الفلسطينى جميعًا فى امتداد كرره أكثر من مرة، من القدس والأقصى إلى غزة مرورًا بالضفة الغربية ومدن الداخل الواقعة تحت الاحتلال، وصولًا إلى فلسطينى الشتات فى المخيمات بالأردن ولبنان وسوريا وغيرها فى دول العالم المختلفة.

هناك الكثير مما قيل على لسان هنية فى هذا الخطاب المثير سنتناوله لاحقًا، لكن الأبرز أنه وضع ببراعة سهلة شارة الخسارة الكاملة على صدر السلطة الفلسطينية، لتخرج هى وفتح أمام الجميع بوسم أكبر الخاسرين من هذا المشهد الذى ظل يصنع على عينيها لأسابيع! بذكر حركة حماس وفعلها خلال ذات الأسابيع، يبدو انتصارها الداخلى بارزًا أمام الجميع حتى هذه المحطة من تدحرج «كرة الثلج»، بالنظر إلى التأزم والانعزال الكبير الذى كانت الحركة ترزح تحت وطأته ما قبل أحداث القدس بشهور، ففى صراع الجولات الانتخابية التى أعلن عنها وبدء دخول الحركة فى ترتيبها وتحالفاتها، لم يكن لدى حماس جديد تقدمه للشارع الفلسطينى، سوى ذات الأداء النمطى الذى اعتاد عليه الشارع الفلسطينى من الحركة وبدا غير متحمس لتكراره. 

ومع وصول الإدارة الأمريكية الجديدة، تمثلت ملامح جديدة لتعاطى مختلف يصب فى صالح إنعاش حظوظ السلطة، خاصة أن تفاعل الولايات المتحدة مع المسئولين الإسرائيلين كشف عن تغير ملحوظ قد يفضى مستقبلًا إلى التراجع عن كثير مما تحقق فى عهد الإدارة السابقة. هذه المعادلات التى لاحت فى أفق لم تُترك له مساحة زمنية للتشكل الواقعى بعد، كما أصاب السلطة بالارتكان أيقظ لدى حماس الرغبة فى الاستنفار، استعدادًا لاقتناص أى متغير- أو صناعته- كى تضمن العودة لبؤرة الأحداث من جديد، أو تنجح فى خلط أوراق المائدة التى لم يشرع أحد فى إعدادها بجدية بعد. راهنت حماس خلال تلك الأحداث على مسارين مثَّلا لها مستهدفًا رئيسيًا منذ اللحظة الأولى، استثمار شيخوخة الرؤية لدى السلطة من أجل تنفيذ اختراق يضمن لها تواجد فعال مستقبلى فى الضفة الغربية والقدس، على خلفية الشروخ العميقة والترهل الذى بدت عليه الأخيرة إبان إعدادها للانتخابات أكده خيار التأجيل الذى ذهبت إليه. وأيضًا العودة لتنشيط آلية الردع العسكرى تجاه إسرائيل، باعتباره الميزة النسبية التى تمكنه من الإمساك بأوراق الفعل لا سيما فى حال الدخول لفصل الاستحقاقات.

كلا المسارين حققت فيهما الحركة أرباحًا مبدئية ملموسة وقابلة للاستثمار، فى حال ظلَّ التصعيد محسوبًا بالقدر الذى ينقل المشهد سريعًا لملعب الغرف المغلقة وبدء ترتيبات التهدئة، وهو ما برعت فيه حماس قبلًا وقادرة على إدارته وتكراره هذه المرة أيضًا.

إسرائيل تقف فى منطقة المنتصف، ما بين حسابات المكاسب والخسارة، فالكرة هذه المرة تحتاج لمهارة وصبر كى تستخلص قدر المكاسب التى حصدتها فى المرات السابقة، لكنها فى كل الأحوال أقرب وفق حساباتها لمنطق المكسب ولو اقتصر الأمر على إعادة الموقف الأمريكى لتموضع مغاير، على خلفية انزعاجه التقليدى من تصعيد المواجهات. وبعد أن تتوافر لديها دلائل مشاركة الجهاد الإسلامى بدفع إيرانى فى صناعة هذا التصعيد، وهى أوراق تجيد تل أبيب استثمارها جيدًا فى أروقة واشنطن التى أدارت لها ظهرها منذ أسابيع قليلة خلت، لذلك ستظل إسرائيل ونتنياهو بالأخص الأكثر حرصًا على تمدد الأحداث طالما ظلَّت الخسائر فى نطاق ما يمكن احتماله، حتى تلوح له فرصة ترميم المأزق السياسى الداخلى الذى يخصه. المنطقة الجديدة التى تجذب إسرائيل إلى مربعات جديدة من الخسائر التى لم تعتدها قبلًا، هى انتفاض مدن الداخل الفلسطينى شعبيًا بصورة غير مسبوقة، جرى ذلك فى مدن اللد وبئر سبع وحيفا وغيرها ومرشح للتوسع فى حال استمرار أجواء التصعيد، وهى جبهة مستحدثة قد تخصم من حصاد المكاسب الإسرائيلية بصورة تبدو أبعادها غير ظاهرة حتى الآن.