رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد بهاء الدين.. المثقف الاستثنائي (بروفايل)

 الكاتب الصحفى أحمد
الكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين

كان بمثابة منارة ثقافية تشع وعيًا تقدميًا يجمع بين البساطة والعمق فى آن معًا، ربما تكون الصحافة قد أحبته أولًا قبل أن يحبها هو، إذ كان يعمل موظفًا صغيرًا فى وزارة المعارف عندما أرسل مقالًا لمجلة «روزاليوسف» دون سابق معرفة بأى من كُتابها أو المسئولين عن تحريرها، وما إن قرأ إحسان عبدالقدوس، رئيس تحرير المجلة آنذاك، المقال، حتى قرر نشره فى المكان المخصص لمقال رئيس التحرير ذاته. 

 

من هنا ولد الكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين، الذى أصبح فى سنوات قليلة وفى العشرينيات من عمره رئيسًا لتحرير مجلة «صباح الخير»، وقد أهّلته مواهبه وثقافته ليتبوأ رئاسة تحرير مجلة «روزاليوسف» ورئاسة مجلس إدارة «دار الهلال» ورئاسة تحرير «المصور» ثم رئاسة تحرير «الأهرام»، وحتى حين احتدم الخلاف بينه وبين الرئيس السادات سافر إلى الكويت، وعمل رئيسًا لتحرير مجلة «العربى» الكويتية.

كان أحمد بهاء الدين صغيرًا عندما قامت ثورة ٢٣ يوليو، وخلال أسابيع قليلة تمكن من تأليف ونشر كتابه «فاروق ملكًا»، وهو ما تحول إلى مرجع مهم عن فترة حكم فاروق، ومن أجل أن يستمر «بهاء الدين» فى أداء دوره كان عليه فى السنوات التى تلت ١٩٥٢ بوجه عام وبعد تأميم الصحافة بوجه خاص أن يتقى بطش السلطة الجديدة، وأن ينأى بنفسه عن الصراعات الدائرة بينها، لذلك لم يترك لا لنفسه ولا لقرائه أن يعتبروه من رجال هذا أو ذاك، ففى محاوراته مع السادات كتب بوضوح: «كان إحساسى بمقدمات ١٥ مايو هامشيًا جدًا رغم خطورتها، الأمر الذى لم يصدقه أى من الأطراف، ربما لأننى أيضًا تعودت فى حياتى الصحفية فى تلك الأوقات ألا أنضم إلى معسكر ضد معسكر، خصوصًا بين عناصر تنتمى إلى المؤسسة العسكرية، وأؤثر الاحتفاظ بمسافة بينى وبين كل الأطراف، إن شعورى دائمًا (ولعله صحيح) بأنها صراعات سلطة وليست صراعات آراء وسياسات، وإننى مستعد للانحياز إلى رأى أو سياسة، وليس إلى شلة فلان أو علان، وقد دفعت فى بعض المناسبات ثمنًا كبيرًا لهذا الموقف».

بعض هذا الثمن الذى يشير إليه «بهاء» تمثل فى نقله من مكان إلى مكان ومن صحيفة إلى صحيفة، دون اهتمام باستشارته أو حتى معرفة رأيه وكأنه قطعة شطرنج! وبعض الثمن كان فى إبعاده عن العمل الصحفى كله بين من أبعدهم السادات فيما عرف ببيان توفيق الحكيم، وبعض الثمن كان فى منعه من الكتابة فى الأهرام بعد أن كان رئيسًا لتحريرها، أما أغلى الثمن، فى ظنى، فهو خروجه للعمل فى دولة الكويت فى النصف الثانى من السبعينيات.

ووقف «بهاء» على أبواب المعتقل أكثر من مرة، ولم يدخله، وهو يروى لنا أن عبدالناصر نفسه هو الذى كان يحميه فيقول: «فى أكثر من مرة أيام حكم عبدالناصر، الذى لم أقابله قط ولم أعرفه شخصيًا، كان السادات يقول لى أحيانًا فى مواقف سياسية معينة إن التقارير قدمت من فلان وفلان، أو من جهاز كذا وكيت للرئيس عبدالناصر تطلب إليه الأمر باعتقالى، ولكن الرئيس كان يرفض دائمًا ويقول: لا سيبوه، هو مخه كده، إحنا راقبناه كتير من أول الثورة وتأكدنا ألا علاقة له بأحد».. وهكذا كان بهاء الدين يجرى حساباته الدقيقة والمعقدة قبل أى موقف يتخذه، لكنه لم يكن أبدًا رجلًا مسئولًا أو رجل سلطة، بل هو رجل يملك عقله ويكتب ما يمليه العقل عليه.

طفت اهتمامات أحمد بهاء الدين السياسية والأدبية على علاقته الاجتماعية، خاصة علاقته بقضية المرأة، خصوصًا أنه خاض واحدة من أخطر معاركه كمحامٍ لها، بدأت المعركة فى صيف ١٩٦١، عندما كتب فى جريدة «أخبار اليوم»، التى كان يرأس تحريرها حينذاك، مقالًا تحت عنوان «هذه الدنيا»، واختار أن يتحدث فى موضوع الشباب والحب وشكل العلاقات الأسرية، ولفت الانتباه إلى أن التطور الاجتماعى الذى يستند إلى تطور مادى قد غير معالم الحب القديم تمامًا، حتى وصل «بهاء» إلى المقارنة بين الفتاة المتعلمة العاملة وغير المتعلمة، وبالتأكيد فضّل الأولى، فيقول بهاء: «لنقارن مثلًا بين فتاة لم تتعلم ولم تعمل وأبوها يعولها بصعوبة.. وبين نفس الفتاة لو أنها تعلمت وأصبحت تعمل، إنها فى الحالة الثانية تستطيع أن تخرج.. أن تذهب إلى السينما.. أن تبحث عن ثوب تشتريه وعن ذوق يناسبها.. أن تختار شريك حياتها أو توافق على اختياره لها.. أن تكون لها صديقات، والفرق هو التغير المادى والاجتماعى الذى حدث لها نتيجة ثقافتها وعلمها».

ويبدو أن هذه الكلمات أصابت الشيخ محمد أبوزهرة فى مقتل، فكتب مقالًا ناريًا فى مجلة «منبر الإسلام»، ليس لمناقشة الأفكار أو الرد عليها وإنما وجّه كل اتهاماته نحو بهاء ووصفه بـ«المنحرف»، أما عن الآراء التى نادى بها أحمد بهاء الدين فالشيخ يراها آثامًا يحمل «بهاء» وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. 

قرر بهاء الدين حينها، فى واحد من أندر مواقفه، ألا يطيح فقط «بعمة» الشيخ محمد أبوزهرة وإنما أن يوجه حديثه لهذا النموذج من الشيوخ، فكتب مقالًا بعنوان «لا يا شيخ» نشر بتاريخ ١٩-٨-١٩٦١، فنّد فيه اتهامات الشيخ وآراءه، موجهًا حديثه لعامة القراء لا للشيخ نفسه، فيقول: «ألا تلاحظون معى أن هؤلاء المشايخ لا يكادون يعنيهم شىء فى الوجود إلا المرأة، ألا تلاحظون أنهم أكثر الناس تفكيرًا فى المرأة؟ أليس هذا غريبًا حقًا؟ ألا يحتاج هذا إلى محلل نفسى.. أكثر مما يحتاج إلى جدل عقلى؟»، لكن يبدو أن عقل أغلب المشايخ لم يتغير.. إن القضايا كما كتب «بهاء» مثل علب الطعام المحفوظة تظل صالحة للاستخدام.

ومثلما أثارت معركته مع الشيوخ الجدل فقد كانت آراء أحمد بهاء الدين السياسية كذلك أيضًا تثير الجدل وتحث على التفكير والمناقشة والسؤال، وتلقى صدى كبيرًا فى الأوساط الثقافية والصحفية والدولية، حتى إن الأستاذ محمد حسنين هيكل كتب: «أعترف بأننى طوال أزمة الخليج لم أفتقد رأيًا كما افتقدت رأى أحمد بهاء الدين، وكانت كلمته الشعاع الوحيد الغائب فى وهج النار والحريق، وكنا نحاول أن نخفى عليه وقائع ما يجرى بناء على أوامر الأطباء حتى نجنبه مخاطر الانفعال، وفى يوم من الأيام ورغم الحصار لمح صورة الأزمة على شاشة التليفزيون، وسألنى بعدها وأنا جالس معه وكرر سؤاله بإلحاح، وفى جملة واحدة لخصت له تفاصيل ما جرى ابتداء من ضم الكويت حتى ضرب العراق، وظل صامتًا لثوان اعتبرتها ساعات، ثم إذ به منفعلًا يقول «ليه.. ليه»، وفوجئت بدموعه تسبق كلماته، ونحاول تغيير الموضوع، ومع ذلك ظل السؤال حائرًا على لسانه والدموع جارية فى عينيه».