رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خبيئة آدم (14).. أين ترقد عظام "الترجمان"؟

يشعر "آدم الصغير" بقشعريرة يعقبها رعشة تضرب جسده.. ما هذا الاهتزاز بعد السكون؟.. إنها هزة المرض وليس العافية.. حتى متى سأظل على تلك الحال؟.. يسمع صوت جده: "ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا وإلى الله ترجع الأمور".. يرد الحفيد: "زهقت يا جدي".. الجد: "الصبر يا ولدي.. كل عرض يأخذ وقته ويمضي.. الحياة نفسها تمضي.. فما بالك بعرضها وزخرفها".
أنت مشغول يا صغيري بالإجابة عن سؤال الخروج.. كما كان جدك "مصطفى" مشغولًا بالحصول على إجابة للسؤال اللغز: أين ترقد عظام "الترجمان"؟. والإجابة دائمًا بميعاد.. ولا يتعلم الإنسان ذلك إلا بمرور الوقت.. النار المشتعلة تخفت بمرو الأيام.. لكن إحساسًا أكيدًا بقى في نفس مصطفى بأن أباه مات قتيلًا، بسبب غضب ولي النعم عليه، تمامًا مثلما مات أخوه صبيًا بسبب غضب التركي "صاحب الجناب السامي" على "الترجمان".. ذهب لأمه مرة وأفضى إليها بهواجسه.
- مصطفى: أظن أن من واجبي أن أنتقم لأبي.. لقد خدعه اثنان المملوك عزالدين الألفي وسليمان باشا التركي.
- الأم: أنت تريد أن أخسرك كما خسرت أباك.. يا بني المنتقم هو الله.. وما بداخلك مجرد شكوك قد لا يكون لها أي أساس في الواقع.
- مصطفى: إذا لم يوجد بديل لها يفسر غياب أبي فلن أقبل إلا بها.
- الأم: يا ولدي.. كفاني ما حدث.. لا تثقل قلبي بالأحزان فلم يعد فيه مكان لحزن جديد.. عدني يا مصطفى أن تخرج هذا الموضوع من رأسك.
- مصطفى (بتردد): أعدك.
- الأم: حفظك الله يا ولدي.. قل لي ماذا قررت أن تعمل.
- مصطفى: اقتنعت برأيك وقررت الابتعاد تمامًا عن شغلة الترجمان.. الحمد لله أبي سترنا قبل أن يرحل.. ولدينا من المال ما يكفي لأبدأ عملًا تجاريًا.. لقد ذهبت اليوم إلى سوق "البندقانيين" حيث يباع البارود.. واستأجرت دكانًا هناك سأبدأ منه الرحلة.
منذ صغره كان "مصطفى" مغرمًا بألعاب البارود.. كثيرًا ما كان يصحبه أبوه "حسن الترجمان" إلى سوق "البندقانيين".. ويقضيان ساعات طويلة في التعرف على أنواعه.. ومخاطره.. وكيفية استخدامه.
تعلق خيال "مصطفى" بما كان يحكيه "الترجمان" عن معرفة المسلمين للبارود.. وكيف كان يسخر من السلطان قنصوة الغوري عندما يسترجع قصته مع أحد التجار المغاربة، حين عرض على السلطان السلاح الناري المتمثل في البندقية التي ظهرت في بلاد البندق بالغرب ورفض السلطان استخدامها، وقال: "نحن لا نترك سنة نبينا ونتبع سنة النصارى وقد قال مولانا سبحانه وتعالى (إن ينصركم الله فلا غالب لكم). فرجع المغربي وهو يقول: من عاش ينظر هذا الملك وهو يؤخذ بهذه البندقية". 
حوّل المماليك- كما روى الترجمان- العمل العسكري إلى ألعاب رياضية، تعتمد على استخدام الصوت كالصيحات المرعبة وما إلى ذلك، واللعب بالسيف، وإظهار الحركات البارعة على الأرض أو على ظهور الخيل، ورفضوا استخدام الأسلحة النارية وهي التسليح الحديث لهذا الزمان، لذا تمكن منهم الترك، ثم تمكن الطرفان من رقاب "أولاد البلد" فاستحلوا أرضهم وأموالهم وأجسادهم ومجهودهم.
علقت فكرة تجارة البارود أكثر بذهن مصطفى عندما رأى نفسه في المنام ممسكًا بيد أبيه، ويتجولان معًا كما تعودا في شارع البندقانيين، ويستمتع بحديث العلم الذي يصبه أبوه في رأسه حول هذه التجارة. وعندما استيقظ من نومه شعر بأن أباه قد اختار له نقطة انطلاق الرحلة التي قرر أن يخوضها بشجاعة.