رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد زكي: لم أحس باليتم إلا بعد فقد صلاح جاهين

أحمد زكي وصلاح جاهين
أحمد زكي وصلاح جاهين

كتبت ظروف الحياة القاسية على أحمد زكي أن يعرف بلقب "اليتيم"، حُرم منذ سنوات الطفولة من نطق كلمة "بابا"، وظل طوال حياته يبحث عن ذلك الأب الغائب وإن شئت قل الظل المجهول، وهكذا نشأ زكي دون لمسة حنان إلى أن التقى بصلاح جاهين فعوضه عن ذلك الحرمان، منذ عرف زكي صلاح جاهين عرف معنى الاحتواء والاحتضان.

 

أكثر من تعلقت به

 

يقول أحمد زكي في حواره مع الكاتبة الصحفية إيريس نظمى المنشور بتاريخ 3 أكتوبر 1990 بمجلة "آخر ساعة": "أكثر من تعلقت به هو صلاح جاهين، رأيته لأول مرة وأنا طالب بالسنة الأولى بمعهد الفنون المسرحية عندما ذهبت للعمل مع آخرين لأداء أدوار صغيرة في المسرحية الغنائية الاستعراضية (القاهرة فى ألف عام) التي صاغ هو أشعارها ومواقفها، ورغم أدائي لدور صغير جدا فى العرض أثرت انتباه المخرج الألمانى فى المعهد -فأرادنى أن أذهب إلى ألمانيا لأكمل دراستي هناك- بل إنه رشحنى لأداء دور رئيسى فى المسرحية بدلا من دورى الصغير جدا الذى كنت متفانيا في أدائه، لكن الفنان سعيد أبو بكر رحمة الله لم يوافق، قال كيف أعطى بطولة عرض كبير مثل هذا لشاب لا يزال بالسنة الأولى في المعهد؟ وحين تأثرت لرفضه لى، وجدت صلاح جاهين يخفف عنى ويبدد أحزانى، ومن يومها أصبح صلاح جاهين بالنسبة لي الأب الروحى والصديق، عرف أنى أعيش وحيدا في العاصمة، فوقف إلى جانبي بعد أن عرف عنى كل شئ، لم يفرش لى الطريق ورودا، تعامل مع حالتى النفسية وخفف عنى تشاؤمى، وحقق لي نوعا من التعادلية، التوزان النفسي وقال لى (أنت حتكون كويس) فشعرت وأنا معه بالأمان".

ذلك التوازن النفسي الذي حققه جاهين لأحمد زكي سقط كالجدار المتهالك حين رحل جاهين، ففي تلك اللحظة التي فقدت مصر فيها واحدا من أهم شعرائها كان زكي يفقد فيها أباه الوحيد، يستعيد زكي بعد سنوات لحظة رحيل جاهين مع إيريس نظمي: "من الذكريات المؤلمة فعلا حين فقدت صلاح جاهين، كان صلاح جاهين بالنسبة لى الصديق، والأب، والأخ، لقد مات أبى وعمرى عام واحد وفارقت أمى لأعيش مع جدتى لأنها تزوجت بعد موت أبي، وكان عمرى عامين، لم أحس باليتم إلا بعد أن فقدت صلاح جاهين- فوالدى لم أره، لقد احتوانى صلاح جاهين على مستوى المسرح والبيت، كان يأخذني معه البيت يسأل عني باستمرار ولآخر لحظة لأنه عاش معى مراحل حياتي -حين أخذوا منى بطولة فيلم "الكرنك"- وقف معى يساندنى حتى وقفت على قدمى، وحين أقيم أسبوع لأفلامي فى مسقط رأسي "الزقازيق"، وقف صلاح جاهين يتحدث عنى، وبكى صلاح جاهين وهو يتحدث عني حين قال: 

(رأيت أحمد زكى فى السنة الأولى في المعهد، وتابعته وهو يشق طريقه، كيف رُفض، وكيف عانى، فى بداية حياته الفنية، كان يذهب ليؤدى دوره فى "مدرسة المشاغبين" بعد أن ينتهى من تمثيل بطولة كاملة لمسرحية ليوجين أونيل). كان الرجل يرانى وأنا أعانى فى صمت لا أشكو من ضيق اليد، ولا من الفرصة التى تضيع منى، قال جاهين: (رأيته فى كل أوقاته، واليوم أحضر تكريمه فى محافظته الشرقية، وأنا اليوم أحس بالاطمئنان عليه)، لقد حدث لى نضج إنسانى وأنا أعيش صداقة صلاح جاهين، كنا نتبادل الكراسي، هو الأخ الأكبر أحيانا وأنا الأصغر، وأحيانا العكس كان يناقشنى وكأنه يناقش واحدا فى مثل عمره، كنت أحيانا لا أراه بالشهور لكننا نلتقى معا بالتليفون، لقد كان صلاح جاهين أعز صديق فى زمن عز فيه الأصدقاء، فى زمن ابتعد فيه الناس عن بعضهم كل واحد غارق فى همومه، كل واحد خائف من الآخر، وقد تلقيت نبأ وفاته وأنا فى مستشفى لندن كلينيك حيث أجريت لى جراحات لاستئصال المرارة، وبعض قرح صغيرة فى المعدة، كانت آخر كلمة قبل وفاته نقلها لى الدكتور أحمد عكاشة (خلو بالكم من أحمد زكى)، وكان صلاح جاهين قد اتصل بى بالمستشفى من قبل ليطمئن علي، ويقول لى عايز حاجة يا أحمد، أجيلك؟ كانت أكبر صدمة لى، ورفض جسمى أن يتواءم فى مستشفى لندن بعد سماعى هذا الخبر المشئوم، كان المفروض أن أمكث ستة أو سبعة أيام بعد العملية، رفض الجرح أن يلتئم، وظللت فى المستشفى خمسين يوما -فقد فتح الجرح ثانية بعد ما سمعت الخبر، وأحضروا لى أطباء أعصاب وأطباء نفسيين- وشعرت بأنى فقدت جزءا كبيرا منى، فهو فنان كبير لا غبار عليه، وكل الناس تحبه وتقدره، لكن بالنسبة لى خسرت الأب والصديق والأخ والفنان الكبير، وظلت آخر كلماته ترن فى أذنى وأنا داخل أعمل العملية حتى كلمنى بالتليفون أجيلك بكره يا أحمد؟".

الأب

لم يكن صلاح جاهين قارئا للكف حين توقع النجاح لزكي فدعمه، لكنه كان يمارس دور الأب بكل المسؤوليات الواقعة على عاتقه، فعندما وقع خلاف بين أحمد زكي وزوجته الفنانة هالة فؤاد، حاول جاهين أن يعيد المياة إلى مجاريها بكافة السبل لكن محاولاته كانت تبوء بالفشل أمام عناد الفتى الأسمر، ولم ييأس صلاح في محاولاته أمام صخرة عناد زكي، لكن حتى الصخرة تتفتت بالطرق عليها، فكان أول ما فعله جاهين بعد خروجه من المستشفى إثر إجراء عملية جراحية أن اتصل بأحمد زكي وطلب منه السفر بصحبته إلى الإسكندرية، قلق زكي من فكرة السفر خوفا على صحة جاهين، الذي أصر بقوله: "معلش يا أحمد، جماعة أصدقاء ولازم أروح لهم"، وبالفعل استجاب الإبن لطلب والده وسافرا معا إلى الإسكندرية، فوجئ زكي بجاهين يخرج ورقة صغيرة من جيبه مكتوب عليها العنوان الذي يود الذهاب إليه، صعدا معا وطرق زكي باب الشقة ليجد نفسه أمام والد هالة فؤاد، وهنا أدرك زكي ما فعله جاهين بحسه الأبوي، ونجحت مساعي جاهين في إعادة لم شمل الأسرة المبعثرة وبالرغم من حالته الصحية الغير مستقرة رفض أن يعود زكي معه إلى القاهرة ويترك زوجته، غادر جاهين الإسكندرية دون زكي، لكن لم تغادره نظرة الحب في عيون أحمد زكي، وبعد سنوات قليلة رحل صلاح جاهين ليعود أحمد زكي إلى يتمه الأول، أو للدقة لليتم الذي لا نهاية له.