رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهوية المصرية



في مساء الثالث من أبريل الجاري اتجهت أنظار العالم نحو مصر للاحتفال بنقل مومياوات 22 ملكا وملكة من المتحف المصري بالتحرير إلى المتحف القومي للحضارة بالفسطاط, وبحق كانت الاحتفالية كبيرة وعظيمة ومشرفة وتليق بعظمة الدولة المصرية ونبهتنا هذه الاحتفالية التاريخية بضرورة الحفاظ على هوية الدولة المصرية, تلك الهوية التي تكونت من طبقات عدة, الطبقة الأولى وهي الطبقة الفرعونية وتعتبر من أكثر الطبقات حتى وإن كانت أبعدها (زمنياً فقط) عن واقعنا المعاصر, وتمتد حوالي 2700 سنة (من 3050 قبل الميلاد إلى 332 قبل الميلاد). وهي الطبقة الوحيدة التي يمكن وصفها بأنها مصرية خالصة, والطبقة الفرعونية هي الطبقة الأساس من حيث أنها: أطول الطبقات وإن كانت أبعدها زمنياً, وكل ما فيها مصري خالص: كل من الحاكم والمحكوم مصريًا, العقائد صناعة مصرية, الأخلاق والضمير صناعة مصرية. وتشكل الطبقة التالية وهي الطبقة الهلينية امتدادًا بشكل ما للفرعونية وإن كان امتدادًا ناقصًا من حيث أن الفعل المصري بدأ يخفت شيئًا فشيئًا ويخضع لقرار من طبقة حاكمة أجنبية. والطبقة الثانية طولها حوالي 362 سنة (من 332 قبل الميلاد إلى 30 بعد الميلاد), حيث انهارت دولة الفراعنة وقامت دولة البطالمة ولكن ظلت مصر أثناءها دولة مستقلة, الطبقة الثالثة هي التي خضع فيها المصريون للحكم الروماني/ البيزنطي بعد أن انهارت دولة البطالمة سنة 30 ميلادية أمام الدولة الرومانية وفقدت مصر استقلالها, وتنقسم هذه الفترة إلى طبقتين فرعيتين أولهما قبل مسيحية والثانية مسيحية, وقد استمرت حوالي 611 عامًا (من 30 بعد الميلاد إلى 641 بعد الميلاد). الطبقة الرابعة خضعت مصر فيها لحكم العناصر العربية والتركية لفترة طويلة قبل أن تتولى العناصر المصرية الحكم أخيرًا وتبلغ مدتها حتى يومنا هذا حوالي 1380 عامًا وهي كلها طبقة إسلامية سنية باستثناء الفترة الفاطمية التي كانت شيعية, وبافتراض أن تاريخ الدولة المصرية بأكمله يبلغ 5066 عاماً فإن ذلك يعني وفقًا للتواريخ المذكورة أن مصر عاشت 53% من عمرها التاريخي فرعونية, و7% هلينية, و12% رومانية – بيزنطية (وثنية – مسيحية), و27% عربية – إسلامية, إن ثقافة مصر مزيج بين الحضارات الفرعونية والهيلنية والرومانية والقبطية والاسلامية, وسكانها ينتمون إلى أعراق مختلفة سامية وحامية عربية وإفريقية وأيضا بها بعض الأعراق التي لا تشكل نسبة كبيرة من السكان ومنها : الزنجية والتركية والبربرية والرومانية وأعراق دول حوض البحر الأبيض المتوسط, لذا فإن هوية مصر ثرية بزخمها الثقافي والحضاري والديني, والتعددية سمة يتميز بها المصريون, وتجاهل المصري المعاصر لوزن المكون الفرعوني في هويته القومية بدعوى أن الفرعونية تتناقض مع العروبة ومع الأديان فهذا لن يؤدي إلا إلى إضعاف مصر, كما أن التجاهل الحالي للمكونين الهليني والروماني بما يتضمنه من فترة مسيحية واضحة سيؤدي حتمًا إلى حدوث خلل في إدراك المصري المعاصر لهويته القومية, هذه الهوية المصرية الثرية والرائعة والبديعة والعامرة بثمارِ عديدةِ من ثمارِ التلاقح الحضاري والثقافي هي اليوم معرضة لتدمير منهجي ومقصود لذاتها ومكوناتها، ولتعدد رقائقها العاكس لأهم الفوارق بين المجتمع المصري ومجتمعات أخرى محيطة شديدة الفقر الحضاري والثقافي بسبب أحادية أبعاد مكوناتها وإذا استمرينا في السماح بمحو أشكال هويتنا الثقافية, سيأتي علينا وقت لن نجد فيه مكانًا نسميه الوطن .
إن احتفالية نقل مومياوات الملوك والملكات ينبغي أن تكون انطلاقة جديدة لمستقبل حداثي أكثر إشراقا ويجب أن تكون ملهمة للمؤسسات التربوية والإعلامية والدينية لبناء إنسان مصري عصري مفكرا لا مكفرا منفتحا لا منغلقا محبا للفنون ونابذا للتعصب وقابلا للأخر المغاير ومتصالحا مع ثقافته وتاريخه وقابلا لثقافات الأخرين المتعددة في الداخل والخارج .