رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدستور تنفرد بنشر «الطريق الطويل» أول رواية مفقودة لـ«واسينى الأعرج»

واسينى الأعرج
واسينى الأعرج


الكاتب عثر عليها بعد 50 عامًا من ضياعها
يمكن أن نعتبر الروائى الجزائرى الكبير، واسينى الأعرج، المساهم الأول فى إعادة إحياء مفهوم «الكاتب النجم» الذى فُقد مع رحيل أعلام الكتابة فى أجيال العالمى نجيب محفوظ والعظيم يوسف إدريس وغيرهما، ولم يأتِ ذلك إلا بعد رحلة طويلة من التألق الإبداعى والوعى الفنى والتجربة شديدة الخصوصية والفرادة.
تجربة واسينى الأعرج بدأت قوية وجادة، بكتابته أول أعماله رواية «الطريق الطويل»، التى انتهى منها فى ٢٠ أكتوبر ١٩٧١، لكنّ قدرًا عجيبًا أحاط بتلك التجربة، حيث ضاعت مخطوطة الرواية آنذاك، ولم يُكتب لها النشر طوال العقود الماضية، لكن نفس القدر ساق «واسينى» إلى العثور على تلك المخطوطة بعد كل هذه السنوات، ليختص «الدستور» بنشر أول فصولها.

حكاية هذه الرواية وجدتها.. وجدتها.. وجدتها..
أغرق فى أشيائى الصغيرة منذ الفجر، وفجأة أكاد أصرخ: أوريكا.. أوريكا.. أوريكا.. وجدتها.. وجدتها... فجأة أصبح أرخميدس Archimède صديقى الصدوق، فصرخت صرخته.
وجدتها تلك المخطوطة الملعونة «ولو فى تدوينها الجزئى على الحاسوب لأن الأصل الخطى لا يزال ضائعًا»، أول محاولة روائية: «الطريق الطويل» كتبتها وكان ذلك فى ٢٠ أكتوبر ١٩٧١؟
كيف ذلك؟ كنت فى ثانوية ابن زرجب، تلمسان، فى الملحقة المختلطة Polyvalent أو مدرسة الشرطة كما كانت تسمى، وهى عبارة عن بناية كولونيالية تشبه القلعة وحولها قاعات الدروس. ذات يوم من أيام شهر رمضان أكتوبر من سنة ١٩٧١، طلب منّى الأصدقاء أن أحكى لهم حكاية فى الفترة الفاصلة بين الإفطار والسحور. كنا فى النظام الداخلى الصارم. بعد الإفطار نخرج نلعب لمدة ساعة، قبل أن ندخل للأقسام لإنجاز تماريننا وفروضنا الليلية، ثم يأتى السحور وبعده النوم. فى الفسحة وبرد الخريف، كنا ننفصل عن الكل نحن المجموعة الصغيرة «بكوش، عتو، سنهاجى، جعيدر، برابح، أورابح..»، ونتخفى داخل قاعة ونجلس هناك، ثم أبدأ الحكاية. هى كانت فى رأسى وأكون قد تخيلت أغلب أحداثها، جزء منها تلده اللحظة.
وكنت أملك قوة إيقاف الحكاية فى الوقت الحرج، عندما يحين وقت الالتحاق بقاعات العمل. أتركها معلقة على الرغم من إلحاحات أصدقائى. لا بد أن يكون لـ«شهر زاد» يد فى تلك العادة. فأقول لهم: غدًا أتمها لكم وهى مكتوبة، ومنجزة. لم تكن مكتوبة طبعًا، كنت أتخيلها. لكن فى اليوم الموالى، أدون ما رويت وما تخيلت فى كراسة من الكراسات القديمة آجورية اللون، حتى بلغت القصة نهايتها بعد أن رويت كل فصولها. جمعتها ولم أفكر يومًا فى نشرها، حتى اليوم. أعتبرها لحظة فقط كانت مثل العتبة، قبل أن أنزلف فى الدرج الأول لأجدنى فى مدارات ملونة إلى اليوم لم أخرج منها، وأنا سعيد جدًا بها.
وبعد سنوات طويلة ضاعت هذه المخطوطة الطفولية. عندما كانت كواتم صوت الإرهاب تدق على الأبواب وتغتال فى وضح النهار، جمعت كل وثائقى ودفنتها فى حقيبة حديدية زرقاء وإلى اليوم لم أفتحها إلا مرة واحدة، فوجدت المخطوطة بالصدفة، أغلقت الحقيبة، والتفت نحو مخطوطة «الطريق الطويل»، ضممتها إلى صدرى مخافة أن تضيع بسبب كثرة الترحال، وللأسف ضاعت المخطوطة التى كتبتها بيدى مرة أخرى، ولا أعرف هل هى هنا معى فى باريس فى مكان ما من البيت؟ أم فى الجزائر فى مكتبتى، مع أنى بحثت عنها هناك ولم أجدها. من حسن الحظ أن الدكتورة سهام شراد تطوعت وقتها بكتابة جزء منه على الحاسوب. هذا الجزء وجدته، ووجدت بعض صور المخطوطة، وأنا أقرؤها- وأقرأ الصفحة الزرقاء التى كتب عليها العنوان وكل التفاصيل التى أصبحت اليوم مفيدة جدًا على بساطتها وعفويتها- ضحكت، لكنى فى النهاية أدركت أن شيئًا ما كان يكبر فى داخلى، لم أتبينه جيدًا وقتها: الكتابة. لم يكن الأمر تسلية على الرغم من لعبة الحكاية، ولكنه كان قناعة غير مدرَكة. القصة بغلاف سينمائى رومانسى ترسم نضال والدى فى الحركة الوطنية. فقد كان مثلى الأعلى حسب مشاهداتى القليلة، وروايات أمى، وجدتى، وخالاتى، وبعض أصدقاء الوالد الذين كانوا معه فى السجن مع رفيقه بوزيان الذى استشهد معه فى نفس الساعة ونفس اليوم، كلاهما اليوم بلا قبر، شهيدان فى قلب الريح.
أعدت بناء قصته مثلما اشتهيتها، صنعت له فى الرواية، نهاية غير النهاية الحقيقية، فقد مات تحت التعذيب، لكنى هربته من السجن وجعلته يقاتل حتى النهاية، حتى استشهد وسلاحه بين يده، لقد لبست جسده وقلبه وقناعاته، وكتبته. لا أعرف المبررات النفسية لهذا التحويل، إذ كان بإمكانى يومها أن أبين مقاومته حتى أثناء التعذيب وأنشئ نصًا قريبًا من حياته، لكنى لم أفعل، ربما لأنى كنت أرفض المعتقل فهو مؤسسة مدمرة ومهينة، أول ما تسرقه ليس روح الإنسان ولكن حريته الثمينة. ربما لهذا أيضًا أصبحت الحرية مقدسة بالنسبة لى، أو ربما لأن التخييل الذى كنت أعيش فيه سحبنى نحو هذه الخيارات؟ كانت مخيلتى واسعة بسبب إدمانى على السينما، وما كنت أقرؤه من روايات بوليسية، وحربية، وروايات مصورة، والبوند دسينى التى كانت تصل كلها إلى المكتبات فى السبعينيات، نشتريها جديدة، ونبادلها لاحقًا، بعد قراتها، أمام قاعة سينما كوليزيبتلمسان، بأخرى لم نقرأها، مثل بليك لوروك، أكيم، زومبلا، روديو، لوسيفير.. وغيرها.
لهذا النص قيمة عاطفية كبيرة، فهو لحظة طفولية صادقة من حياتى، وعتبة أولى فى كتابة الرواية، والرواية التاريخية تحديدًا. لم أجر عليه أى تعديل جوهرى باستثناء بعض التدقيقات الشكلية واللغوية والصياغات الجملية الخفيفة. كان عمرى ١٧ سنة.


الفصل الأول فى غابة الطّاكا TAGA يركض بلا توقف

كانت الشمس تنحدر فى خشوع مستمر، متجهة نحو المغيب بنعومة وبطء، كأنها ملاك يختفى وراء الغيم رويدًا رويدًا، وقد أرعبته جرائم الإنسان الفظيعة التى يرتكبها يوميًا. تقسم بالذى هو أعلى وأبقى أنها لن تعود أبدًا. لن تعود إلا إذا ما استقام البشر، فكفوا عن جرائمهم، لكنها فى اليوم الموالى تعود بإشراقها على الجبال ووجوه الفلاحين والرعاة ونساء القرية.
بدت جوانب السماء حمراء كأنها نيران موقدة بلون مخيف. هالات من حولها تنذر بالخوف وجزع مرعب. تكاد السماء تنطبق على الأرض فى الأفق البعيد حيث تداخل كل شىء.
فجأة، ظهرت نقطة سوداء تشبه الظل، كانت تتحرك وتقترب شيئًا فشيئًا، متَّجهة إلى الأمام، ليتكشف من ورائها شكل إنسانى طويلًا لقامة، وقد بدت على وجهه علامات التعب من جرَّاء الجرى.
ثيابه رثة، معطفه ممزَّق مترامى الخرقات والخيوط التى كانت تغطى وجهه كلَّما جرى إلى الأمام. ولما خارت قواه من شدَّة الركض، بدأ يتمهَّل فى سيره ويحاول أن يتنفس عميقًا. جلس على أول صخرة منحوتة فى الفراغ كأنها كرسى، ليسترجع أنفاسه. ثم التفت نحو السهل الذى ترامت أطرافه فى كل الجهات. فتح ذراعيه عن آخرهما وتنفس هذه المرة بعمق أكثر:
- أخيرًا وصلت. كم كان الطريق طويلًا. أيتها الأرض العظيمة، خذينى إلى حضنك.
نزع معطفه الثقيل، بعد أن ترك الصخرة وتمدد على الأرض، جاعلًا منه وسادة.مد بصره نحو سماء فقدت زرقتها. نظر إليها عميقًا حتى أصبحت قريبة ويستطيع أن يلمسها بقلبه وعينيه. بقى على هذه الحال، حتى ثقل جفناه وغالبه النوم. فغرق فى أحلامه وكوابيسه. فى عالم اللاَّشعور واللامبالاة الذى لا يشبه فى شىء عالمنا القاسى.

إلى أين؟ هل هى بداية الطريق أم نهايته؟
شىء ما يربكه فى عزلته؟
حدّث نفسه بصمت، وكـأنه يخاف أن يسمعه أحد.
بقى ساعات مستلقيًا على الأرض، فى غيبوبة شبه تامة، وقد انعكف جسمه فى شكل مقوس وشبه دائرى، من شدة البرودة الحادة التى كانت تخترق الجلد مسامير باردة. رأى القمر الوهاج مرتسمًا فى السماء، بنور أبيض ساطع، يلمع لمعان الدرّ الثمين، برزت من خلاله ظلال الأشجار وكل ما كان يحيط به. وكأن شيئًا لدغه، فقام مذعورًا على ذلك الضوء الساطع. ثم بدأ يكتشف ما كان قريبًا منه ويحيط به. شعر بنفسه غريبًا كأن يدًا رمته فى هذا المكان. وحيدًا كان، مرميًا فى قفر لا يعرف عنه أى شىء.
رفع رأسه من جديد نحو السماء، هو الليل. لم يستطع تفادى ضوء القمر، فتلألأت عيناه تحت الأشعة وكأن القمر منحه بعض الراحة. مسح المكان كليًا. لا حياة سوى أنفاسه. حاول أن ينام من جديد لكنه لم يستطع. لا يعرف كم مكث هناك من الوقت. نهايات فصل الخريف، تؤلمه من الداخل. الدنيا كلها فى حالة تعكر مستمر.
كم قطع من المسافات؟ لا يعرف. يدرك فقط أن الطريق لا يزال طويلًا وأنه كلما توغل فى الغابة زاد بردها. ترى أى دافع دفع بفتى كهذا ليتحمل دون احتجاج كل هاته الأتعاب والآلام؟
لا أحد يعرف ماذا يحمله هذا الشاب المغامر وراءه. واقع بين فكى هواجسه، وقد تلاعبت فى رأسه كل حالات الخوف، فزادته تشاؤمًا من الحياة. قد يكون فى مهمة كبيرة لا أحد يعرف سرها؟ قد يكون أيضًا قد خاف، فرجع على طريقه وقد سمع دمدمة الرعود ولمعان البرق وكثافة الأمطار التى بللت لباسه؟ ربما يكون قد ترك وراءه ما يعزّ عليه: والديه المسنين، وأخًا شابًا، وشعبًا عظيمًا فى قرية ممتدة من سفح الجبل قبل أن تزحف باتجاه الجبل.
بصعوبة أوقد النار. من الصعب العثور على بعض الحطب الجاف فى هذه الغابة. عندما تصاعدت ألسنتها بدأ يدور حولها وكأنه كان يؤدى رقصة من رقصات الهنود الحمر، السِيُّو أو الآباش. شعر بالحرارة تصد نحو كامل جسمه، وتمنحه بعض الحياة. خفَّت خشيته من مفاجآت طيور الخراب التى كان قد رآها وهى تحلق قريبة منه. يخاف من نعيقها. بل يخاف أن تهجم عليه فتفترسه وتمزقه فى ثانية واحدة، يصبح بعدها كومة عظام روحها فى العالم الآخر. يتذكر أنه رآها يومًا وهى تنقض على دجاجات أمه فتخطفها وتعلو بها فى السماوات قبل أن تلتهمها.
يحلم أن يصل بسرعة لكن ما الوسيلة يا ترى؟ الطريق لا يزال طويلًا ومخيفًا. لم يقطع إلا جزءًا صغيرًا منه.
أضاف قليلًا من الحطب إلى النار، ثم اتكأ على جذع الشجرة الخشنة، إلى أن غفا من جديد قبل أن توقظه خيوط الشمس التى تسربت أشعتها الأولى بين الأشجار. أفاق من نومه الذى لا يعلم كم دام. نظر من جديد من حوله، يتأمل المكان وزواياه، فلم يزده ذلك إلا دهشة وخوفًا، لكن هذا لم يعطله عن مواصلة طريقه الصعب.
لملم أغراضه. وضعها على ظهره، ثم واصل طريقه.
وعلى الرغم من التعب والبرد، فقد مشى بلا توقف. هو يعرف جيدًا وجهته على ما يبدو، عندما توسطت الشمس صدر السماء العكرة، تنفس عميقًا.
تمتم بخفوت كبير:
- أوف أخيرًا.

رأى من أعالى الهضبة قريته ولم يصدق ما رآه.
تخيل كل شىء إلا هذا.
منظر حزين. كانت الأدخنة تصعد من كل الأمكنة. علت قلبه حالة كمد كبيرة. زاد غمًّا حتى كاد يموت اختناقًا من هول ما رآه. منظر مرعب تلين له القلوب اليابسة. لم تكن القرية كما تركها قبل أن تبتلعه الغابة. وكما تعود أن يراها كل صباح من الهضبة المطلة عليها، التى يقف عليها الآن.
لم تكن نفسه مخطئة عندما حدثته عن هذا الخراب وهو فى عمق الغابة. كانت الأدخنة التى رآها حقيقية لم تكن وليدة لحظة التعب.
فجأة بدا له كأنه سمع نعيق بوم.
يا إلهى ما هذا؟ كل هذا الرماد وروائحه المحملة بلحم المحرقين وحطب البيوت.
شىء ما يتصاعد عاليًا يصل حتى الأنف محملًا برائحة نبتة المغرمان التى تُغطى بها الأسطح فى القرية عادة قبل أن يوضع عليها التراب فتتحول إلى كتل لاصقة مثل الزفت، تمنع الماء من النزول من الأسقف، والمرور عبر القصب. الطبيعة القاسية علمت الناس كل شىء بوسائلهم البسيطة.
«تحرقنى الذاكرة. أرى الآن، أمى وأخواتى والصغير عمر، يوم بنينا بيتًا بمساعدة عمى إبراهيم الغوستو، وعمى البكوش، بحطيان معوجة وأسطح مبعوجة، لكنها تقى من حر الشمس ومطر الشتاءات القاسية. أتذكر يومها أنى رافقت أمى وأختى، إلى رحى كامى، وسيدى منصور، ونزعنا من غابة الطاغا ومن حوافى السكة الحديدة التى تسير فى خط أفعوانى باتجاه ميناء الغزوات، شجيرات الماغرمان بروائحها الحادة التى تلتصق باليد مخلفة بقعًا سوداء لاصقة نملأ خرج الحمار بشجيراتها، ونأتى نحو عمى البكوش الذى يكون قد وضع جذوع الأشجار فى شكل أخشاب عرضية وطولية مشبوكة، وغطى الكل بقصب وادى جنان الهبيل. بمجرد أن نرفع الشجيرات باتجاهه، يفرشها، فتلتصق بالقصب بقوة قبل أن يوضع عليها التراب الأبيض، ويتم تمليس السطح بيد أمى وأختى فيصبح كأنه حرير برائحة البياضة العطرة. تسود الظلمة داخل البيت. توقد أمى شمعتين فى الزوايا المظلمة. يدب الهدوء الكبير كأنه مقام ولى صالح. لا باب للبيت سوى نبتات السدرة المشوكة التى لا تقى من البرد، لكنها تمنع الحيوانات الكبيرة من الدخول».

رآها من أعلى الهضبة.
كانت كشجرة متفرعة يابسة. فجأة، أصبحت القرية الهادئة مقفرة وموحشة. ينعق فيها البوم فى عز النهار، وتتقاتل فيها الذئاب التى كانت تأتى أصواتها من بعيد فى شكل عواء مخيف من مأوى للذئاب الضارية والمفترسة.
لاحظ أنه لا حياة فى القرية.
اقترب منها أكثر فأكثر بحذر كبير.
تنتشر الجثث على مرمى البصر.
فقد دُمِّرت القرية من أقصاها إلى أقصاها، وتطايرت أحجارها فى كل مكان. وتبعثرت الجثث فى جميع الأرجاء وقد أحاطت بها برك صغيرة من الدماء الحمراء الصافية. دماء هُدِرت غيلة وتآمرًا. سالت بغزارة، فتجمدت مع مر الوقت. زادت المكان وحشة وروائح تشبه رائحة الموت. أشقياء وضحايا. قلَّة استطاعت الهرب، بينما شردت البقية، فلم تدرِ لجريها وجهة. الغالبية العظمى فُتِك بها تحت دمدمة الرّعود وزمجرة الدَّبابات والمصفَّحات، وأزيز الرَّشاشات والقنابل الحارقة. تحت كل أنواع القتل والخراب التى استعملت. واضعة حدًا نهائيًا لكائنات لم يعد من حقها العيش.
الجثث فى كل مكان. وسط القرية، الهضبة، الغابات، السجن القديم، بيت المرضى أو المستوصف.
شد رأسه بين يديه ولا يعلم إن تكلم حقيقة أم أنه صرخ داخليًا فقط:
- فى أى عالم نحن يا ربى؟ وحوش لا ترحم. ترى، هل أصبحت آذان العالم صمَّاء أمام نداءات الضَّعيف، وعويل البائس، وشكوى المظلوم؟ لا قلب ولا ضمير. أين الرحمة؟
ظل الرجل يتأمل مشهد الموت ويتحرك بصعوبة بين الجثث. قرية بكاملها أُحرقت وأُبيد ناسها. تقدم أكثر وهو يحاول أن يتفرس الوجوه. فجأة ارتجفت فرائسه، كأن سهمًا اخترق قلبه. ارتسمت حالة الرعب فى عينيه. كأنه جنَّ فأصبح مفقود الإرادة، يسير بلا طريق. يتخطى الأموات متأملًا عيونهم التى ظلت تطلب النجدة ولا من مجيب إلا الرصاص. تارة يتألم وأخرى يتحسر بقلب مجروح. الجثث متناثرة. يرفع من حين لآخر رجله اليمنى، وأخرى اليسرى، حتى لا يطأ ولا يدوس على الجثث المنتشرة. وقف فجأة مرتجفًا وقد تحركت دمعات قلبه. كاد يُغمى عليه.
جلس على ركبتيه متفحصًا الجثة التى عرفها من ملامحها على الرغم من الدم الذى ساح من فمها ورأسها. مد يده إلى صدره كيلا ينفجر. كانت الجثة لأخيه عمر، وبيده قطعة خبز من الشعير. فمه لا يزال مفتوحًا وقد امتلأ دماء، كأنه كان يصرخ ويستنجد قبيل موته، ولكن مَنْ يسمعه فى قفر الموت، لحظة كانت فيها القرية تموت بكاملها تحت وابل الرصاص؟
«الله يرحمك يا خويا عمر العزيز».
انحنى عليه. ضمُّه إلى صدره، بين ساعديه، قبّله على جبهته قبلة الوداع الأخيرة، وقد تسارعت دموعه للنزول. صرخ بأعلى صوته. لم يسمع إلا صداه تردده الوديان الجافة. بكى حتى شعر كأن الملائكة مجتمعة تنحنى لآلامه. طائر حر سرقت الكواسر فراخه من عشها، طار بعيدًا وعندما عاد لم يجد إلا ريشها منتشرًا على العش.
اتكأ على الحائط كى لا يسقط. أغمض عينيه لم يسمع إلا الصراخ وطنين الذباب.
إهداء
أحمد، والدى الذى لا قبر له.
أعتقد أنى لم أفكر إلا فيك، وأنا أتجرأ على الكتابة لأول مرة فى ٢٠ أكتوبر ١٩٧١.
أنتَ الوهم الجميل الذى تخيلته كما اشتهيتُ.
كل ما أعرفه عنك أنك كنتَ ضحية وشاية أودت بحياتك فى ٤ أبريل ١٩٥٩، على كرسى التعذيب، أنت ورفيقك الشهيد بوزيان، فى سجن السَّوانى.
هذا الكتاب أنتَ، كما تخيلتُك أنا.
فأنا لم أرك فى حياتى إلا قليلًا. ولا أتذكر إلا ثلاث لحظات: يوم عُدتَ من أراضى الغربة محملًا بالهدايا، حين كنتَ تغسل وجهى كل صباح، يوم خسرت فى لعبة الكريات، وبدأت أبكى، وحين سألتنى عن سبب البكاء، قلت لك إنهم سرقوا كرياتى. غافلتهم ثم هجمت عليهم فهربوا مخلفين وراءهم الكريات، جمعتها من المثلث، ووضعتها كلها فى جيبى. ويوم ألقوا القبض عليك وكنتَ واقفًا عند الباب باستقامة محاصرًا من جيش الاحتلال، ويوم جاءوا بك فى سيارة جيب عسكرية، ليفتشوا المطمورة بحثًا عن الأسلحة، لكنهم لم يجدوا شيئًا، لأن الجنود كانوا قد مروا ليلًا وأخذوها كلها. أتذكر أنك يومها طلبت كأس حليب من أمى. أعتقد أنها الصورة الأخيرة التى رأيتك فيها. بعدها أصبحت قصة، ثم حكاية وأخيرًا أسطورة.