رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دفايات «بير السلم» القاتلة.. المصريون يشترون «الموت» للهروب من البرد

جريدة الدستور

تواصل الدفايات الكهربائية خطف الأرواح واحدًا تلو الآخر، بالتزامن مع موجات البرد الشديد، الذي يجعل البعض في حاجة للاستعانة بوسائل التدفئة الصناعية، من أجل التغلب على الطقس البارد، لكنهم يدركون مؤخرًا خطورتها بعد أن تتسبب في وفاة المحيطين بها.

«الدستور» حققت في انتشار الدفايات القاتلة وآثارها الجانبية على الضحايا، من خلال التواصل مع أشخاص تعرضوا لحوادث مؤذية بسبب استخدامها، بجانب إجراء جولة على محال «بير السلم» التي تتاجر في الدفايات مجهولة الهوية، وغالبًا ما يحدث ماس كهربائي إثر استخدامها داخل المنازل.

إحدى الضحايا: استيقظنا على كارثة في المنزل بسببها

في إحدى ليالي البرد القارس، كانت هالة، أم لثلاثة أطفال، ترتجف بشدة من قسوة البرد، بل كان أولادها يعانون أيضًا من ذلك الأمر مطالبين والدتهم بشراء جهاز كهربائي لتدفئة المنزل، وبالفعل لم تتردد السيدة في التوجه إلى إحدى المحال المتخصصة في بيع الأدوات الكهربائية بالقرب من منزلها في منطقة فيصل لتحصل على دفاية صغيرة سعرها لم يتجاوز 200 جنيه.

عادت الأم إلى منزلها حاملة الدفاية في يديها، وبدأت في تشغيلها على الفور لتدفئة المنزل، ثم تجاهلتها تمامًا وانشغلت في أعمال المنزل ومتطلبات أولادها، حتى جاء موعد النوم وذهبوا جميعهم إلى الفراش مصطحبين الدفاية بجانبهم، واستمر الحال كما هو لمدة أربعة أيام، لم يقوموا بفصل الجهاز فيهم سوى ساعات قليلة فقط.

وفي اليوم الرابع، استيقظت العائلة على كارثة نتج عنها إصابة طفلين من الثلاثة بجروح حادة، بعد اندلاع حريق كبير داخل المنزل إثر حدوث ماس كهربائي بسبب استمرارية تشغيل الدفاية لساعات طويلة، واتضح بعد ذلك أن الجهاز غير صالح للاستخدام؛ بسبب سوء تصنيعه، وعدم توافر المواصفات القياسية به، لتكون هذه هي المرة الأخيرة للعائلة في استخدام مثل تلك الأجهزة، خوفًا من تعرضهم للإيذاء مرة أخرى.

عمر: تعرضت لاختناق شديد بعد أن تركتها مشتعلة بجانبي

وبالبحث المتواصل عن ضحايا الدفايات، تواصلنا مع ضحية جديدة عانت من اختناق شديد كادت أن تصل للوفاة بعد أن استغرق في نومه لساعات عدة، تاركًا الدفاية مشتعلة بجانبه، ليستيقظ في اليوم التالي على سرير أحد المستشفيات، وإنقاذه من الموت في الوقت المناسب.

روى عمر خالد، 24 عامًا، قصته مع استخدام الدفايات القاتلة، قائلًا: «ربنا نجاني من الموت بأعجوبة، بفضل زميلي في السكن اللي طلب الإسعاف لما شافني مغمى عليا»، مشيرًا إلى معاناته مع ضيق التنفس في الأساس، والتي جعلت الأمر يزداد خطورة حين ترك الدفاية بجانبه طوال الليل.


كشف تقرير المستشفى حينها تعرض «عمر» لاستنشاق نسبة كبيرة من غاز الأكسيد كربون بسبب ذلك الجهاز الغير معلومة هويته، والذي تسبب في سحب الأكسجين من الغرفة بشكل كامل، كما أكد الطبيب المعالج أن الوقت الذي تم اصطحاب الشاب فيه إلى المستشفى كان مناسبًا للغاية، لأنه كان سيتعرض للوفاة في حالة تأخره بسبب مشكلة التنفس الذي يعاني منها في الأساس.

دفايات «بير السلم»

بعد الانتهاء من حديثنا مع ضحايا الدفايات القاتلة، استعلمنا من إحداهم عن المكان الذي ابتاعت منه في منطقة فيصل، ثم توجهنا إليه على الفور للتحقق من الأمر، وكشف حقيقة بيعهم لأجهزة مجهولة الهوية، وبمجرد دخولنا المكان الذي وجهنا إليه الدليل، وجدنا العديد من الأجهزة الإلكترونية المختلفة التي يتاجرون فيها، وكان أغلبها مستعمل ولا يحمل علامة تجارية معروفة.

وبسؤال أحد العاملين داخل المحل، قال إن هذه الأجهزة يتم شراؤها من مصانع كبيرة متخصصة في الإكترونيات، وتوزع على المحال الصغيرة في المنطقة، وتتراوح أسعارها على حسب الخامة، فهناك أنواع عديدة للزبائن يمكنهم الاختيار فيما بينهم، ولكن التركيز الأكبر كان على الأجهزة المستعملة التي امتلأ المحل بها.

واتضح من خلال جولتنا أن تلك الأجهزة المستعملة متهالكة إلى حد ما، وبمجرد النظر إليها تخاف أن تستخدمها داخل منزلك، لكن العامل كان يقنع الزبائن بأن مصدرها سليم، ولم يشكُ أحد منها من قبل، بالرغم من التفاوت الشديد في الأسعار بينها وبين الشركات المعروفة التي تتاجر في الدفايات.

لم يكن هذا المحل الوحيد الذي يتاجر في الدفايات مجهولة المصدر، بل إن هناك العديد من الورش الصغيرة في المنطقة تتبع ذات الأمر، معتمدة على رخص ثمنها وسهولة بيعها للزبائن الغير مقتدرين على شراء أجهزة باهظة الثمن، وحين سألنا أحدهم عن خطورة استخدامها: "متشغلهاش طول اليوم وخليها بعيد عنك وإنت نايم".

مؤسس المركز القومي للسموم: سكان الأرياف هم الأكثر عرضة للوفاة بسببها

انتقلنا بعد ذلك للحديث مع الدكتور محمود محمد عمرو، مؤسس المركز القومى للسموم، وأستاذ الطب المهنى والبيئي بكلية الطب بقصر العيني، ليوضح في حديثه لـ"الدستور"، أن الأكثر عرضة لمخاطر الدفايات أو طرق التدفئة المستخدمة هم سكان الأرياف البسطاء، فلا يتعرضون لمجرد مخاطر بل تصل إلى حد الموت في أقل من دقائق بحيث يتم استخدام المنقد التى يتكون من قوالح الذرة ويتم توليعه والتدفئة عن طريق الدخان المتسبب فيه هذه القوالح، والتى تؤدى إلى الأمراض الصدرية.


وأضاف «محمود» أن تلك الدفايات البدائية تصدر غاز أول أكسيد الكربون القاتل، فهو ليس غازًا سامًا فقط ويمكن علاجه، بل يؤدى الى الموت مباشرة ولا يمكن إنقاذه وأكثر من يتأثر به هم الحوامل والأطفال، لأن الغاز يؤثر على الجنين فيحدث إجهاض أو موت الجنين فى بطن الأم، وإن صدف وتم ولادته يؤثر أول أكسيد الكربون على خلايا المخ فيصاحب الطفل تأثير سلبي على ذكائه، وتعرضه للتأخر العقلى.


وتابع: «سوف تنتهى هذه المشكله بمجرد إنقاذ الدولة للأرياف ضمن مشروع الرئيس عبدالفتاح السيسي لتطوير الريف والصعيد وقرى مصر وتوفير الكهرباء والمياه ووسائل العيش الأساسية، وهذا ما ننادي به من أكثر من 50 عامًا، وتمت الاستجابة في الفترة الحالية لإنقاذ الريف المصري».


ولفتى إلى أن «هناك دفايات رديئة الصنع، يطلق عليها (إنتاج بير السلم) التى تسبب حرائق شديدة من خلال صنعها من البلاستيك، وتعرض هذا البلاستيك لدرجة حرارة شديدة فيحترق أو تسبب الماس الكهربائي، وتؤدى إلى نفس النتيجة وهى الحرائق، ويحل ثانى أكسيد الكربون محل الأكسجين ويسبب مرض قاتل هو تسمم فى الدم والجهاز الهضمى والجهاز التنفسي العلوي».

وبيّن: أن «هناك دفايات معتمدة، تكون مخاطرها الوحيده هي الإهمال في استخدامها، ما يُسبب ماسًا كهربائيًا فتشغيلها وإطفاؤها بشكل مستمر أو النوم وتركها تعمل قد يسبب الماس الكهربائي فيجب ألا نترك وسائل التدفئة بعيدة عن النظر فهذه نار مشتعلة علينا الانتباه لها».

استشاري علاج السموم: أنواع الدفايات لا تختلف كثيرًا من حيث المخاطر

تواصلنا أيضًا مع الدكتور طارق عبدالفتاح، استشارى علاج السموم فى المركز القومنى للسموم، الذي تحدث عن رحلة المصاب بالتسمم أو الاختناق عن طريق استخدام الدفايات، قائلًا: «أنواع الدفايات لا تختلف كثيرًا من حيث الخطورة، فهي تتسبب فى إفراز غاز ثانى أكسيد الكربون وأول أكسيد الكربون، وهما أكثر أنواع الغازات خطورة على الأجهزة التنفسية، وكثيرًا ما تؤدى إلى الوفاة، وخاصة كبار السن المدخنين الذين يتعرضون لأزمات تنفسية على الفور، ما يؤدى إلى وفاتهم».

وتابع: «غاز أول أكسيد الكربون يخنق الأنسجة، ويتحد مع الهيموجلوبين ويمنع الأكسجين فيلتصق بأنسجة الأكسجين، ويستمر فى الالتصاق فيمنع انتقال الأكسجين فى الجسم، ما يسبب اختناق المريض، وأيضًا الكثير من الأمراض وتوقف الأجهزة نتيجة منع خلايا الجسم من الاستفادة بالأكسجين، وخاصة أصحاب أمراض الجيوب الأنفية وحساسية الصدر المزمنة».

وذكر أنه «إذا حدث هذا الاختناق أو حريق بسبب وسائل التدفئة أكثر ما يحتاج إليه المتعرض للحادث هو الأكسجين المضغوط، فأول خطوه تكون خروج المتعرض إلى الهواء الطلق ثم أخذ كميات معينه من الأكسجين العادى ثم الأكسجين المضغوط على الفور، حتى نتمكن من إنقاذ حياته، ولكن ليس من السهل إنقاذه لأن أول أكسيد الكربون غاز قاتل بشكل سريع جدًا فعلينا الحذر منه».