رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هزيمة إخوان ليبيا فى البلديات



اجتماعات ملتقى الحوار الليبى فى جنيف اجتذبت كل الاهتمام الإعلامى والسياسى، بعيدًا عن الانتخابات البلدية التى بدأ تنظيمها فى ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٠، رغم أهمية ما أسفرت عنه من نتائج، وما عكسته من دلالات.. الانتخابات البلدية العامة كان موعد إجرائها عامى ٢٠١٩ و٢٠٢٠، لكنها تأجلت فى ٣٠ بلدية من إجمالى ١١٦، يقع بعضها فى الغرب حيث كانت الأوضاع الأمنية والسياسية متدهورة نتيجة تمركز الميليشيات، والصراع فيما بينها على مناطق النفوذ، والبعض الآخر يقع فى الشرق والجنوب حيث لا تعترف إدارة بنغازى بسلطة اللجنة المركزية للانتخابات البلدية فى العاصمة.. بلديات طرابلس الخمس يقطنها نحو نصف عدد سكان ليبيا الذى يتجاوز سبعة ملايين نسمة، ما يجعل نتائج أى انتخابات فيها مؤشرًا صحيحًا لاتجاهات الرأى العام الليبى، ومؤثرًا جوهريًا فى النتائج العامة على مستوى الدولة.. انتخابات غرب ليبيا تمت تحت إشراف اللجنة المركزية لانتخابات المجالس البلدية فى طرابلس، أما انتخابات الشرق فقد نظمتها لأول مرة اللجنة المركزية للانتخابات البلدية فى بنغازى.
الإخوان بذلوا جهودًا كبيرة فى محاولة استعطاف الناخبين، مذكرين إياهم بما قدموه لهم من خدمات تطوعية.. اعتمدوا على استقطاب شخصيات وأسماء لا تنتمى إلى التنظيم فى قوائمهم الانتخابية، بهدف جمع الأصوات والتأثير على الناخبين، ليتمكنوا من الوصول إلى السلطة رغم تدهور شعبيتهم، وركزوا فى ذلك على استقطاب مرشحين من القبائل الكبرى لتشتيت أصواتها، ودعايتهم الانتخابية ارتكزت على توظيف النعرات القبلية والتعصب الجهوى، ووصم المنافسين بالخيانة.. المجلس الرئاسى لحكومة الوفاق أدرك مبكرًا التراجع الكبير فى شعبية الإخوان، وانعدام فرصهم فى الفوز بالانتخابات البلدية إذا ما أجريت بالنظام الفردى، وحاول منع هزيمتهم بإصدار القرار رقم ١٨ لسنة ٢٠١٩، بتعديل لائحة الأسس والضوابط الخاصة بانتخابات المجالس البلدية لتكون بنظام القائمة المغلقة، إلا أن ذلك لم يكن مجديًا، مما يفسر لجوءهم للعنف.
الجماعة ضغطت على إدارة بعض اللجان الفرعية للانتخابات التى خسروا فيها من أجل إلغاء النتائج، على نحو ما حدث فى بلدية حى الأندلس أكبر بلديات مدينة طرابلس.. تقارير مراقبة الانتخابات أكدت لجوء الإخوان إلى استخدام السلاح، لإجبار الناخبين على التصويت لمرشحيهم، ما دفع اللجنة الفرعية لإيقاف الانتخابات فى بعض البلديات مثلما حدث فى بلدية السوانى بن آدم.. كل الناشطين الذين روجوا ضد قوائم الإخوان تعرضوا لتهديدات صريحة، والميليشيات أغلقت أحد مراكز الاقتراع فى وجه الناخبين بعد أن تأكدت من وجود شبه إجماع على رفض مرشحى الإخوان، كما ظهر عدد من المسلحين وقادة الميليشيات داخل لجان الاقتراع مدججين بالسلاح، إضافة إلى مشاركة بعضهم فى الإدلاء بصوته، وعلى رأسهم محمد قنونو المتحدث الرسمى للميليشيات ببلدية زليتن، وهو ما يخالف القوانين المعمول بها دوليًا ومحليًا.
اللجنة المركزية للانتخابات أكدت أن نتائج الانتخابات فى كل الدوائر التى أجريت فيها إما انتهت بسقوط مرشحى تنظيم الإخوان فى معاقلهم، أو ألغيت بسبب عدم مطابقتها صحيح الإجراءات، وتقررت إعادتها نتيجة الانتهاكات والمخالفات الجسيمة للإجراءات.. فى حين حصدت كل الأصوات القوائم التى تدعم قيام دولة المؤسسات والجيش والشرطة وتدعو إلى السلم الأهلى المجتمعى، مما يعكس تراجعًا جوهريًا فى اتجاهات الليبيين نحو الإسلام السياسى، وهو ما يمكن اعتباره نتيجة لعملية مراجعة مجتمعية لأيديولوجيا الإخوان، لم تُجدِ معها مراجعات الإخوان أفكارهم، ومحاولتهم السيطرة على الوعى الشعبى منذ سقوط نظام حكم القذافى.
بعد أيام قليلة من انتهاء الانتخابات، أصدرت الدائرة الثانية بمحكمة استئناف طرابلس حكمًا يقضى بإلغاء قرار المجلس الرئاسى رقم ١٨ لسنة ٢٠١٩ الخاص بتعديل لائحة انتخابات المجالس البلدية لتكون بنظام القائمة المغلقة.. الانتخابات المحلية تجرى بالنظام الفردى وفقًا لقانون صادر من مجلس تشريعى، لا يجوز صدور أى تعديلات عليه من المجلس الرئاسى لأنه مجلس تنفيذى، ويعتبر جهة غير ذات صفة، بهذا تصبح الانتخابات التى تمت بمقتضى التعديل غير قانونية وملغاة.. وكل ما أسفرت عنه من نتائج لا يتجاوز عملية استطلاع لاتجاهات الرأى العام الليبى تجاه كل من الإخوان وأنصار مؤسسات الدولة.

لا يمكن الانتقال من تقييم دلالات فشل الإخوان فى الانتخابات البلدية، وانعكاساتها على مستقبل الانتخابات العامة لاختيار رئيس جمهورية ومجلس نواب جديد المقرر لها ٢٤ ديسمبر المقبل، دون تقييم نتائج ممثلى الإخوان فى انتخابات ملتقى الحوار السياسى الذى تم فى جنيف أوائل فبراير الجارى.. فقد فشلوا فى تحقيق ما كانوا يستهدفونه من الملتقى.. مرشحهم الأبرز للمجلس الرئاسى كان خالد المشرى، اضطر إلى الانسحاب من قائمة المتنافسين قبل ساعات من التصويت الثانى، بعد أن حصل على ٨ أصوات من ٣٧ صوتًا تمثل المجمع الانتخابى للغرب، كما فشل مرشحهم لرئاسة الحكومة فتحى باشاغا فى الفوز بالمنصب.. محمد صوان رئيس حزب «العدالة والبناء» أعرب عن الأسف والحزن لما أسفرت عنه انتخابات ملتقى الحوار بجنيف من نتائج.. عبدالباسط جويلة الإخوانى عضو دار الإفتاء المقيم فى تركيا، أعرب عن رفضه الحكومة الجديدة، وأكد: «حكومة ستيفانى لا تمثلنى».
ترشح خالد المشرى لرئاسة المجلس الرئاسى ثم تقدم باستقالته قبل المرحلة الثانية من التصويت، بعد أن أدرك انعدام فرصه فى الفوز، كانت مناورة سياسية شبيهة باستقالته فى يناير ٢٠١٩ من حزب الإخوان «العدالة والبناء»، بهدف الاستعداد لخوض انتخابات الرئاسة الليبية، بعد أن أدرك تراجع شعبية التنظيم، وضرورة الحاجة إلى تغيير «جلده»، دون المساس بتوجهاته الفكرية ومواقفه السياسية.. سبب انسحابه فى جنيف يرجع إلى تيقنه من انعدام فرصه فى الفوز، فضلًا عن أن فوزه برئاسة المجلس لا يناسب طموحه، لأن المنصب لا تتجاوز مدة شغله ١٠ أشهر، حتى ديسمبر ٢٠٢١، ومحظور عليه بعدها شغل أى منصب رسمى، بينما طموحه يتعلق بالقفز على مقعد الرئاسة الليبية الدائم، والإخوان لا يتخلون عادة عن مقاعدهم طواعية.
استقالة المشرى تفرض سؤالًا بالغ الأهمية: هل الإخوان يشكلون خطرًا على السلطة السياسية فى المستقبل القريب؟.. الرد يفرض الإشارة إلى أن إخوان ليبيا يمرون منذ ٢٠١٢ بمرحلة إعادة تدوير، بعد أن أدركوا ضعف شعبيتهم، وقد نجحوا بهذه الوسيلة فى السيطرة بالفعل على المؤتمر الوطنى «المنتهية ولايته»، لكن الشارع الليبى اكتشف الخدعة خلال انتخابات البرلمان الحالى «٢٠١٤»، فخسروا الانتخابات، مما يفسر استقالة المشرى فى يناير ٢٠١٩، وانسحابه من جماعة الإخوان المسلمين، مبررًا ذلك بأنه ينطلق من «المقتضيات الوطنية الفكرية والسياسية، ومن باب الصدع بالقناعة والوضوح مع المواطن الليبى»، مشيرًا إلى أنه «مستمر فى العمل السياسى والحزبى».. نفس آلية المناورة بالانسحاب تكررت عند إعلان فرع «جماعة الإخوان المسلمين» بمدينة الزاوية غرب طرابلس، عن استقالة جماعية لأعضائه من الجماعة العامة فى أغسطس ٢٠٢٠، أعقبتها الاستقالة الجماعية لأعضاء «جماعة الإخوان بمصراتة»، وحل الفرع فى أكتوبر ٢٠٢٠.. هذه مناورات سياسية، لا علاقة لها بالتوجهات العقائدية، لأن انتماء الأعضاء للتنظيم ليس انتماءً وظيفيًا، بل أيديولوجى يُبقى على بيعة المستقيل للمرشد وولائه للتنظيم.. رغم ذلك فإن حل فرعى الحزب فى الزاوية ومصراتة اللذين يشكلان مع فرع طرابلس أضلاع مثلث أنشطة تيارات الإسلام السياسى فى ليبيا يشكل ضربة قاصمة لا يمكن تجاهل أهميتها.

الفشل الذريع لمرشحى الإخوان فى انتخابات البلديات بطرابلس والمنطقة الغربية، عكس رفض الشارع الليبى لهم، بسبب تجاوزات الميليشيات الموالية لهم، وتوظيفها العنف فى المناطق الخاضعة لسيطرتها، مما يؤكد أن ذلك سيكون أسلوبهم لعرقلة أى عملية انتخابية مقبلة، لأنها ببساطة تعنى نهاية وجودهم فى السلطة.. جماعة الإخوان المسلمين تحرص على تجنب مقايضة ما تتمتع به من نفوذ فى الغرب بعملية انتخابية غير مضمونة النتائج، خاصة أن تجربة إخفاقهم فى الانتخابات البرلمانية عام ٢٠١٤ لا تزال حاضرة فى ذهن الجماعة، عندما لم تتمكن من الحصول إلا على ٣٠ مقعدًا فقط من ٢٠٠ على مستوى الدولة.. مصلحة الإخوان إذن إشعال الصراع ونشر الفوضى، لعرقلة إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية عامة بنهاية ٢٠٢١، خوفًا من الهزيمة، أما فى حالة إجرائها، فمن المرجح تكرار وقائع التزوير والتلاعب بشكل أكبر، خاصة أن أهميتهما تفوق الانتخابات البلدية بشكل كبير.. ميليشيات الإخوان لن تتخلى عن هيمنتها التى اكتسبتها فى الغرب بقوة السلاح، لذلك مهما كان التفاؤل بشأن مستقبل الاستقرار فى ليبيا، فإن تنظيم الإخوان كفيل بتبديده.