رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خط مصر الأحمر وخفايا إدارة ليبيا الجديدة


اجتماعات ملتقى الحوار السياسى الليبى بدأت فى أكتوبر ٢٠٢٠، بعد ثلاثة أيام من التوقيع على اتفاق وقف دائم لإطلاق النار فى جميع أنحاء البلاد، ما يعنى أن البعثة الأممية كانت قد اختارت أعضاءه، وعددهم «٧٤ عضوًا»، قبل الاتفاق.. ينتمون لمجلسى النواب والأعلى للدولة، والقوى السياسية الفاعلة.

المجمع الانتخابى للغرب ٣٧ صوتًا، نظيره فى الشرق ٢٣ صوتًا، والجنوب ١٤ صوتًا، هذا التوزيع يعكس الكثافة السكانية للغرب، ويضمن له ثقلًا تصويتيًا مُرَجِحًا.. اختيار الأعضاء تم بتزكية من أجهزة مخابرات غربية، خاصة الأمريكى، بحكم انتماء ستيفانى ويليامز، ولعل ذلك يفسر أن قرابة نصف أعضاء المجمع الانتخابى للغرب الليبى من المتعاطفين مع الإخوان، وأن هذه الأجهزة على معرفة عميقة بالاتجاهات السياسية للأعضاء، على نحو يطمئنهم مسبقًا لنتيجة التصويت.

الاستبعاد المفاجئ للمرشحين الأقوياء فى التصويت النهائى لم يكن وليد الصدفة، وانتخاب مرشحين جدد لم يكن مفاجأة.. خفايا عملية اختيار الإدارة الليبية الجديدة ونتائجها سنتناولها فى تسع نقاط.

أولًا: تقدم لعضوية المجلس الرئاسى ٢٤ مرشحًا، ولرئاسة الحكومة ٢١ مرشحًا.. فى الشرق حصل أعلى المرشحين، «عقيلة صالح»، على ٩ أصوات من ٢٣ صوتًا.. فى الغرب حصل «خالد المشرى» على ٨ أصوات من ٣٧ صوتًا.. وفى الجنوب حصل «عبدالمجيد غيث سيف النصر» على ٦ أصوات من ١٤ صوتًا.. وبما أن أيًا من هؤلاء المرشحين الفائزين بقمة المجموعات لم يحقق النصاب المطلوب «٧٠٪ من أصوات المجمع»، فقد تم الانتقال إلى المرحلة الثانية، وهى عملية تشكيل القوائم، هذه العملية كانت محفوفة بالغموض والريبة، من حيث الآليات التى حكمت تشكيلها، والتوظيف العميق للخلافات الجهوية، مما انعكس على طبيعة التصويت العقابى الذى ساد عملية اختيار الإدارة الجديدة.

ثانيًا: القائمة الأولى ضمت محمد البرغثى للرئاسى، ومحمد الغويل للحكومة، يغلب عليها الطابع التكنوقراطى، لذلك لا تمثل القوى الفاعلة على الأرض، ولا تحظى بنفوذ، حصلت على ١٣ صوتًا فى المرحلة الأولى.. الثانية ضمت الشريف الوافى للرئاسى ومحمد المنتصر للحكومة، وأحد أنصار النظام السابق، وهى تعتبر مُرضية للشرق، لكنها غير مقبولة للمنطقة الغربية وطرابلس، حصلت على ١٥ صوتًا.. الثالثة محمد يونس المنفى للرئاسى، وعبدالحميد الدبيبة للحكومة، كانت لأعضائها مواقف رافضة لحرب طرابلس، ما أكسبها شعبية بالمنطقة الغربية وطرابلس، حصلت على ٢٠ صوتًا.. القائمة الرابعة عقيلة صالح للرئاسى، وفتحى باشاغا للحكومة، وضمت عبدالمجيد سيف النصر، صاحب الشعبية القبائلية الكبيرة فى الجنوب، وأسامة جويلى، قائد ميليشيات الغرب.. هذه القائمة كانت الأقوى من حيث تمثيل القوى السياسية على الأرض، كما عكست توازنًا جهويًا وقبائليًا، فضلًا عن تمثيلها للقوى الإقليمية «مصر وتركيا وفرنسا»، حصلت على ٢٥ صوتًا.

ثالثًا: فى المرحلة الثانية من التصويت تحققت المفاجأة؛ محمد المنفى فاز برئاسة المجلس الرئاسى رغم أنه لم يكن قد حصل سوى على ٥ أصوات، وكان ترتيبه الثالث فى تصويت المجمع الانتخابى للشرق، كما فاز موسى الكونى بمنصب نائب الرئيس، وكان ترتيبه الثالث بصوتين فى مجمع الجنوب، أما عبدالله اللافى، النائب الثانى للرئيس، فلم يحصل إلا على صوت واحد فقط فى المجمع الانتخابى لطرابلس!!.. هذه النتائج تؤكد أننا بصدد عملية مخابراتية أديرت بواجهة ديمقراطية خادعة، للتخلص من كل الوجوه القديمة، واستقدام إدارة جديدة.

رابعًا: تعدد القوى السياسية المهمشة يضاعف من مخاطر عدم الاستقرار، نتيجة رفضها نتائج التسوية.. ضعف تمثيل أنصار نظام القذافى فى ملتقى الحوار دفع أحمد قذاف الدم إلى وصف أعضائه بـ«العملاء واللصوص الجديرين بالمحاكمة لا الترشيح».. فايز السراج أيضًا كان بصدد إعادة هيكلة أجهزة الأمن لتكون تابعة له مباشرة، وكان يُعِد لتشكيل حكومة جديدة تضم ممثلين للمنطقة الشرقية، بوساطة إيطالية «زيارة جوزيبى كونتى، رئيس الوزراء، ثم مدير مخابراته جنارو فيكيونى، إلى بنغازى».. السراج أبدى استعداده لإجراء الانتخابات نهاية العام، ما يؤكد رغبته البقاء فى المشهد، حتى إن ستيفانى ويليامز أبدت تخوفاتها مما أثير بشأن احتمال تحديه شرعية الملتقى.. خسارة عبدالمجيد سيف النصر بكل ما لديه من شعبية لدى قبيلة أولاد سليمان، وعائلة سيف النصر التى حكمت فزان حتى عام ١٩٦٣، ستؤدى إلى غضب الجنوب.. وبالمثل تأثير خسارة عقيلة صالح واستبعاده من رئاسة البرلمان على قبيلته «العبيدات»، أكبر قبائل الشرق الليبى وأكثرها نفوذًا.. ورد فعل خروج فتحى باشاغا على ميليشياته بمصراتة، وكذا انعكاس فشل أسامة جويلى على ميليشيات طرابلس والزاوية.. عملية اختيار الإدارة الجديدة لطرابلس تمت بمنطق مخابراتى مجرد، غابت عنه المواءمات والرؤية السياسية.

خامسًا: عملية تفكيك الميليشيات تعد أهم ركائز عملية التسوية، رغم ذلك لم يتم التقدم تجاهها على أى نحو.. ميليشيات الغرب الليبى اعتادت ابتزاز الدولة، وتقاضى ميزانيات دعم مليارية ورواتب أفراد بدعوى تأمين المنشآت الحكومية، بينما الحقيقة أنه نظير اتقاء شرها.. نتائج ملتقى الحوار أثارت غضبها، ما دفعها لإعلان تضامنها، وتشكيل «قوة حماية طرابلس والمنطقة الغربية» من أبرز أربع قوى مسلحة بالعاصمة، وهى «قوة الردع الخاصة»، و«لواء ثوار طرابلس»، و«لواء النواصى»، و«قوة التدخل السريع».. التشكيل الجديد أكد رفضه آلية التصويت ومخرجات اختيار السلطة الجديدة التى تمت فى جنيف.. ميليشيات غرفة عمليات «سرت الجفرة» احتجت بدورها على تأخير الرواتب، وهددت باقتحام مقر المجلس الرئاسى فى طرابلس، إذا لم يتم دفع مستحقاتها، مما يعكس مدى تهديد الميليشيات المسلحة لاستقرار الأوضاع فى الغرب الليبى.

سادسًا: سحب القوات التركية والمرتزقة يعتبر ثانى أهم ركائز التسوية.. كان مقدرًا أن يتم سحبها قبل ٢٣ يناير، لكن هناك مماطلات وسعى لتمديد الفترة لثلاث أشهر إضافية.. تركيا ما زالت تدفع بتشكيلات إضافية من المرتزقة، وتستبدل تشكيلات قائمة.. ولاية الحكومة الجديدة لن تزيد على عشرة أشهر، وإذا ما استهلكنا منها ثلاثة أشهر أخرى فى مماطلات تتعلق بالانسحاب، فإن ذلك يعنى أن معظم المنطقة الغربية، وهى أكبر كتلة تصويتية فى البلاد، ستخرج عن ولايتها، وتظل خاضعة لتأثير الميليشيات والمرتزقة وتنظيم الإخوان، مما يؤدى إلى التلاعب بإرادة الناخبين لصالحهم.

سابعًا: فايز السراج غادر روما إلى أنقرة يوم ٨ يناير ٢٠٢١، بصحبة وزير دفاعه صلاح الدين النمروش، ووزير الداخلية فتحى باشاغا، ومدير المخابرات عماد الطرابلسى.. كان فى انتظارهم بتركيا خالد المشرى، رئيس المجلس الأعلى للدولة، ومعه ١٦ من قادة الميليشيات المسلحة فى غرب البلاد، أغلبهم من مصراتة، أبرزهم محمد الحصان، آمر ميليشيا ١٦٦، وأيوب بوراس، القيادى البارز فى ميليشيا النواصى، وبشير خلف الله الذى يقود ميليشيا الرحبة بمنطقة تاجوراء.. عقدوا اجتماعًا أمنيًا موسعًا مع الجانب التركى، استهدف بحث فرص تعطيل مسارات الحل السياسى والمصالحة الليبية، وآليات مواجهة أى محاولة إقصاء لتركيا عن المشهد، أو الحد من آليات تواصلها مع ركائزها بالداخل الليبى، ما يمكنها من تنفيذ خطة طوارئ وقت الضرورة تسمح بالسيطرة على المواقع الحيوية العسكرية والاقتصادية، وتحافظ على مصالحها هناك.. إذن كلما تقدم مسار السلام كلما تضاعف التهديد التركى.

ثامنًا: الإدارة الأمريكية الجديدة تتجه نحو تعزيز التهدئة ونزع فتيل الأزمات بالمنطقة، المصالحة الخليجية استهدفت الحشد فى مواجهة إيران، لكن واشنطن سرعان ما بدأت تمهد للعودة إلى الاتفاق النووى بالترهيب من قرب توصلها للقنبلة النووية.. عمليات التطبيع مع إسرائيل أهم ملامح هذا الاتجاه، وكذا توقف تركيا عن التصعيد شرق المتوسط، ما بدد مناخ التوتر الذى ساد المنطقة لأشهر طويلة.. لذلك فمن غير المسموح به أن تكون ليبيا ساحة حرب، مما يفسر أن كل الاختيارات التى تمت، والتعيينات التى سوف تتم، ترتكز على محاصصات وترضيات للقوى الفاعلة على الأرض، وعلى رأسها تركيا بالطبع.. أما على مستوى قادة حكومة الوفاق فإن الإدارة الأمريكية كانت منذ البداية تتحفظ على استمرار السراج، لتعاونه الصريح مع الميليشيات والتنظيمات الإرهابية، وعجزه عن حل مشكلات الغرب الليبى، وفشله فى تحقيق تقدم لعملية التسوية.. كذلك على الرغم من علاقة فتحى باشاغا بستيفانى ويليامز، وحديثه عن تفضيل الإدارة الأمريكية له كرئيس حكومة، إلا أن واشنطن فى الحقيقة تتحفظ على علاقته المباشرة بميليشيات طرابلس ومصراتة، ولجوئه للقوة المسلحة فى تسوية نزاعه مع السراج.

تاسعًا: ولعل أخطر النتائج التى أسفر عنها ملتقى الحوار، هو الإطاحة بعقيلة صالح من رئاسة مجلس النواب، وذلك كان هدفًا فى حد ذاته، حاولوا تحقيقه خلال جلسة الملتقى التى عقدت فى «سبها» عقب انتهاء اجتماعات «بوزنيقة»، لكنهم فشلوا.. طمأنوه لتبوء الرئاسى، ومرروا نصًا يقضى بأنه فى حالة انتماء رئيس المجلس الرئاسى لإقليم برقة، فإن رئيس البرلمان ينبغى أن يكون من فزان، وعندما خسر فى الرئاسى لصالح المنفى الذى ينتمى إلى الشرق أيضًا، أصبح لزامًا خروجه من رئاسة مجلس النواب وبالتالى غيابه عن المشهد تمامًا.. وجود صالح فى البرلمان كان صمام أمن لاستمرار خليفة حفتر فى قيادة الجيش، رغم الخلافات بينهما، ما يعنى أنه سرعان ما يغادر حفتر المشهد أيضًا.. تهديد ستيفانى بأنه «أمام مجلس النواب الليبى ٢١ يومًا للنظر فى منح الثقة للحكومة الجديدة، وإلا سيعود القرار لملتقى الحوار السياسى»- يعنى أنه ينبغى «تدجين» مجلس النواب، وإلا ستقوم بتنمية دور «الملتقى» ليكون كيانًا سياسيًا موازيًا ينهى شرعية البرلمان، الذى تصدى لسلطة الميليشيات والغزو التركى، ولعل ذلك يفسر عودة العديد من النواب إلى طرابلس ليمارسوا مهامهم البرلمانية من مقر العاصمة، رافضين الانتقال إلى سرت، وتلك بداية إسقاط بنود التسوية، وفقًا لمبادرة عقيلة صالح. أخيرًا، هل يؤثر ذلك على المصالح المصرية؟!.. الإجابة، أن مصالح مصر لا ترتهن بوجود مسئولين محددين فى مناصب معينة بدول الجوار، وإنما ترتبط بمتطلبات أمن مصر القومى، التى تفرض الحفاظ على كيان الجيش الوطنى الليبى ودعمه، والعمل على رفع الحظر عن تسليحه، والتأكيد بحسم على استمرار «الخط الأحمر»، إلى أن تنسحب كل القوات التركية، ويتم تفكيك الميليشيات، وترحيل المرتزقة.