رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«لقاء الدنيا والدين».. كيف رد «هيكل» على شائعة إلحاده؟

محمد حسنين هيكل
محمد حسنين هيكل

الكاتب الصحفي أنور عبداللطيف من الأشخاص الذين منحتهم الأقدار فرصة عمره بالاقتراب من «ساحر الكلمة المكتوبة» محمد حسنين هيكل خلال سنواته الأخيرة، عاش معه قدرًا كبيرًا من الأحداث، وخرج معبأ بالعديد من الذكريات، ما دفعه لنسج كتابه «هيكل.. الوصايا الأخيرة»، الذى قدم من خلاله رؤية ذاتية تكشف عن وجه «الأستاذ» الآخر على الصعيدين الإنسانى والمهنى.

وفي سطور هذا الكتاب كشف عبداللطيف تفاصيل لقائه بهيكل، ساردًا العديد من الحكايات التى عاصرها وعايشها مع الأستاذ قائلًا: ارتبطت بالأستاذ هيكل وجدانيًا منذ عام ١٩٧٤، بالتزامن مع التحاقى بالفرقة الأولى بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وقتها جذبنى بشدة ذلك الرجل المعتز بذاته والعاشق لقلمه، عندما وقف كما الجبل الأشم فى وجه الرئيس أنور السادات معترضًا على بعض سياساته التى انتهجها عقب حرب أكتوبر، فى صدام كان حديث مصر بأكملها حينها.

أضاف "أعجبنى رفضه الانصياع أمام تهديدات الرئيس السادات، وانقلابه على إغراءاته التى حاول أن يشترى صمته بها، ورغم أننى لم ألتقِ به آنذاك، اعتبرت نفسى من يومها تلميذًا فى محرابه، أتابع بشغف كل ما يكتبه، وأرصد بدقة كل ما يقوله وما يُقال عنه، بعد أن صارت كلماته بالنسبة لى أشبه بهالة النور التى تضىء مسالك العابرين والسائرين فى الطرقات المظلمة والحوارى المُوحشة.

فى عام 2003، فُتحت أمامى طاقة القدر، عندما كلفنى رئيس تحرير الأهرام الراحل إبراهيم نافع بالذهاب لمنزل «الأستاذ» لإنجاز مهمة إخراجية، أطلعنى حينها على تفاصيلها قائلًا: «هيكل كتب مجموعة من رسائل الوداع للناس بعنوان (استئذان فى الانصراف)، سيطلعهم خلالها على قراره باعتزال الكتابة الصحفية، وحسم رأيه بأن يتم نشرها عبر (الأهرام)، وطلب الجلوس مع المخرج الصحفى، قبل أن تظهر تلك المقالات للنور.

بالفعل ذهبت فى الموعد المحدد للقائه داخل بيته الريفى ببرقاش، حيث استمع لرأيى واطلعت على رؤيته، ثم كان الدرس الأول الذى خرجت به من لقائى معه، هو قوله إن «المخرج الصحفى لا بد أن يتمرد على الواقع، ويعيش الصحافة بطريقة تجعله أفضل من يمارس المهنة».

ومن حينها توثقت وتعمقت علاقتى بـ«الأستاذ»، وأتيح لى اكتشاف «هيكل الآخر» فى المقابلة الأولى مع «الأستاذ» اكتشفت إيمانه القوى بفكرة «الوجاهة الاجتماعية»، فالشكل عنده أحد أهم عناصر الدخول إلى المضمون، والصحفى فى رأيه لا بد أن تكون لديه هيئة مميزة ومظهر أنيق.

هناك فى «برقاش» تشعر وكأنك فى متحف مفتوح، تجد أمامك مقتنيات ودررًا وزهورًا متناسقة فى لمسة جمالية فريدة ونادرة. هناك أسس الراحل العظيم مكتبته التى كانت أشبه بمخزن أسرار تضم وثائق وكتبًا ومراسلات وشرائط تؤرخ لنصف قرن أو أكثر من حواديت المحروسة، وتوثق ما جرى فى بر مصر، لذا أعتقد أنها عندما تعرضت للحرق كان الذى أقدم على ذلك مدركًا تمام الإدراك لما يفعل.

أذكر أن سؤالى الأول لـ«الأستاذ» كان عن علاقته بالزعيم جمال عبدالناصر. كيف بدأت؟ وكيف صارت؟، فقال إن معرفته به نشأت أثناء حرب «الفالوجا»، حيث التقيا هناك للمرة الأولى، لكن العلاقة الشخصية بين الطرفين قويت ونمت فى أعقاب ثورة ١٩٥٢.

القيادة الجديدة لتلك الحركة، وفى إطار احترامها دور الصحافة وقيمة الكلمة، كانت حريصة على استقطاب أفضل العناصر القادرة على إيصال صوتها للجماهير الغفيرة، ومن وجهة نظر «جمال» لم يكن هناك أفضل من «هيكل» لأداء تلك المهمة، فقد كان يمتلك من القدرات الشخصية والمهنية ما لم يكن متوفرًا فى أحد غيره.

اقترب «الجورنالجى» من «الزعيم»، وعندها فتح «جمال» أمامه خزائن الأسرار، لكن «هيكل» لم يكتفِ بدور المشاهد، فآثر أن يلعب دور البطولة بالتوجيه والمساهمة فى صناعة القرار. وعندما أفضى ذات يوم بالحديث قائلًا: «لقد اطلعت على أسرار لو أعلنت عنها لقامت القيامة فى مصر، لكنى لن أكشف عنها أبدًا، وأفضل أن أموت وهى معى»، أعتقد أنه حينها لم يكن يتكلم من فراغ، فهو فى القضايا التى تتعلق بالأمن القومى المصرى كان لا يقبل الكلام أو النقاش.

أثبت «هيكل» خلال مسيرته مع صاحبة الجلالة أن الصحافة ليست بالشهادة، لكنها تعترف بالمهارة. فهو لا يخجل مثلًا من الاعتراف بحصوله على «دبلوم تجارة»، لكنه فى الوقت ذاته التحق بالقسم الحر بالجامعة الأمريكية، حيث تمكن من دراسة الصحافة بمفهومها الحديث والشامل، ونجح فى أن يحدث انقلابًا وتغييرًا كبيرًا فى صاحبة الجلالة. فى أحد الأيام سرت شائعة اتهمت «الجورنالجى» بأنه إنسان ملحد.. فهل بالفعل أصابه ذلك المس ولو فترة قليلة؟

يقول أنور: «الأستاذ» كان قارئًا جيدًا فى الدين، وقارئًا نهمًا للتراث الإسلامى، ولكل ما له علاقة بالقوى الناعمة للإسلام، لكنه كان يرفض الحديث فى الدين من إطلالة تظهره كما المفتى، وكان معترضًا على فكرة المتاجرة بالدين كذلك.

هو كان مؤمنًا بلقاء الدنيا والدين، وأن الإسلام لا يتعارض كفكرة مع وسائل الرفاهية ومتع الحياة، ولأول مرة أقول إنه كانت هناك أسر كاملة بيوتها مفتوحة على ما يقدمه لهم من منح، فالعطاء عنده كان يعتبره بمثابة الوجه الحضارى للتدين.