رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أزمة «سد النهضة» والحرب بين القوميات الإثيوبية «1-2»




كان من المقرر هذا الأسبوع أن نختتم سلسلة «مصر وتهديدات دول الأطراف»، وذلك بعد أن بدأنا بثلاثة مقالات تتعلق بالتهديدات التركية، تلتها أربعة مقالات خاصة بالعدائيات الإثيوبية، وكانت الخاتمة المقررة تتعلق بمخاطر «إيران»، بعد مقالين فى نفس الموضوع.. لكن إقليم «سد النهضة» الاستراتيجى اشتعل بمواجهات عسكرية خاضتها الحكومة الإثيوبية مدعومة بقومية الأمهرة ضد الحركة الانفصالية فى تيجراى، بمشاركة إريتريا.. كما نشبت الحرب بين القوات الحكومية وميليشيات الأمهرة ومسلحى الأورومو من ناحية، ضد قومية بنى شنقول- قميز العربية المسلمة.. وذلك بخلاف ما تعرضت له القوات السودانية من هجمات وقصف، بعد أن استعادت سيطرتها على أراضيها المغتصبة فى الفشقة لأكثر من عشرين عامًا.. شمال إثيوبيا تحول إلى ساحة ملتهبة يقف «سد النهضة» فى القلب منها، جغرافيًا وجيوبوليتيكيًا، مما سيعكس آثاره بصورة بالغة الأهمية على مصير السد ومستقبل الأزمة، وفرض العودة للتهديدات الإثيوبية.
إثيوبيا وفقًا لدستورها دولة «جمهورية ديمقراطية اتحادية»، تتكون من ٩ ولايات إقليمية مقسمة حسب العرق واللغة «تيجراى، عفر، أمهرة، أوروميا، أوجادين أو الصومالى، بنى شنقول- قميز، الأمم الجنوبية، جامبيلا، وهررجى»، إضافة إلى ولايتين: أديس أبابا وديرة داوا.. الدولة على هذا النحو مفتتة، تفتقر تمامًا للتجانس القومى، الأمر الذى يفسر ما تتعرض له من مواجهات وأعمال عنف دامية بين القوميات والمجموعات العرقية المختلفة، ما هدد الاستقرار طيلة السنوات الماضية، كما أجهض برامج الإصلاح التى حاول أبى أحمد، رئيس الوزراء، تطبيقها.
اضطرابات يونيو ويوليو ٢٠٢٠ التى قتل فيها ٧٥ وأصيب ٢٠٠، عكست دلالات كاشفة، فقد قادتها قومية الأورومو احتجاجًا على مقتل المغنى والناشط الأورومى الشهير «هاشالو هونديسا» جراء إصابته بطلق نارى، خلال اشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن فى أديس أبابا نهاية يونيو ٢٠٢٠.. كل الإنتاج الفنى للمغنى المذكور كان دفاعًا عن حقوق قومية الأورومو، أطلق صرخة ضد تهميش الحكومة لها، رغم كونها أكبر العرقيات فى إثيوبيا «٤٥٪ من الشعب»، وهى التى خرج منها أبى أحمد، رئيس الوزراء، نفسه، وذلك أمر مثير للدهشة، لأنها كانت من المفترض أن تكون «أولى بالرعاية».. هذا التناقض يعكس حجم الخلل الداخلى وعمق الأزمة السياسية والاجتماعية فى البلاد الناتجة عن اعتماد رئيس الوزراء على قومية الأمهرة، وتجاهله حقوق كل القوميات الأخرى، بما فيها «الأورومو» التى ينتمى إليها وتمثل الأغلبية، والتفسير يكمن فى أن الأمهرة لديها ميليشيات مسلحة، ساعدته فى التخلص من حكم التيجراى، وتبوُّؤ السلطة.
لقاء أبى أحمد، ورئيس الوزراء الإريترى، أسياسى أفورقى، فى أديس أبابا أكتوبر ٢٠٢٠، تم فى أعقاب السيطرة على الاضطرابات، وأسفر عن اتفاق على إسقاط الحكومة المحلية الانفصالية للتيجراى، حيث تم تشكيل غرفة عمليات مشتركة لإدارة الحرب فى الولاية، شاركت فيها ميليشيات الأمهرة، بحكم احتلالها المناصب القيادية الرئيسية فى الجيش والحكومة وأجهزة الأمن، ودورها المحورى داخل النظام، كما أطلقت يد القوات الإريترية فى العمل داخل حدود الولاية.. أفورقى وجدها فرصة لتصفية حسابات قديمة مع القيادة التيجرانية، التى هيمنت على حكومة رئيس الوزراء الراحل، ميليس زيناوى، خلال حرب الحدود التى دامت ٢٠ عامًا بين إثيوبيا وإريتريا، قبل أن يتوصل مع أبى أحمد إلى اتفاق السلام عام ٢٠١٨، ويطيح بخصومه التيجرانيين.. الحرب التى نشبت فى نوفمبر أسقطت الحكومة المحلية، شردت الآلاف، المذابح الجماعية طالت المئات، والاغتيالات استهدفت قادة جبهة تحرير تيجراى.. ٤.٥ مليون من سكان الولاية، البالغ عددهم ٦ ملايين، بحاجة إلى مساعدات غذائية طارئة، ومئات الآلاف يواجهون المجاعة.. بعض لاجئى تيجراى هربوا إلى السودان، وهو ما اعتبرته إثيوبيا انحيازًا لتيجراى، من خلال توفير ملاذات آمنة لمواطنيها من الملاحقة.
إقليم تيجراى ظل معزولًا عن العالم وتحت الحصار حتى بعد سقوط الحكومة الانفصالية، ولم يسمح لأعمال الإغاثة ولا للصحفيين بالتواصل مع السكان أو مساعدتهم، مما يفسر تعليق الاتحاد الأوروبى بعض تمويله لإثيوبيا رفضًا لما تفرضه الحكومة من قيود، وما تقوم به من ممارسات.. الحكومة الإثيوبية تخشى من استهداف جبهة تحرير تيجراى لـ«سد النهضة»، لأنها تعتبره مشروعها الخاص، وتود حرمان أبى أحمد من توظيفه كأهم محاور الحشد القومى فى البلاد، فضلًا عن مشاعر الغبن التى استشعروها بعد استبعاد شركاتهم وقياداتهم من العمل فى المشروع الذى بدأوه.

المواجهات بين الأورومو فى الجنوب والغرب، وبنى شنقول- قميز على الحدود مع السودان، تتكرر منذ سنوات للسيطرة على بعض المناطق الصالحة للزراعة على طول الحدود المشتركة بين القوميتين، السلطات تواجه الاضطرابات بعنف مفرط، ما يضطرها لقطع الإنترنت، حتى تحد من انتشار لقطات الفيديو والصور التى تظهر الجثث والممتلكات المدمرة أو المنهوبة وعمليات الاغتصاب.. أبى أحمد أطلق أواخر ديسمبر عملية عسكرية واسعة فى المنطقة، وقام بنشر قوات إضافية فى «ميتيكل» الريفية التى كانت مسرحًا لمذابح متكررة بين جماعتى قميز وأمهرة، كان أحدثها هجوم عشية عيد الميلاد، هذه المنطقة يقع فيها «سد النهضة»، وأهلها يعارضون بناءه، لأنه يغرق مساحات شاسعة من أراضيهم، ويؤدى إلى تهجير ما يقرب من ٥٠.٠٠٠ من السكان المحليين، لذلك يمارسون معارضة مسلحة للحصول على حق تقرير المصير توطئة للانضمام إلى السودان، ولذلك فإنهم هدف رئيسى لميليشيات الأمهرة، خاصة فى المرحلة الراهنة التى وصلت فيها أزمة السد إلى أعقد مراحلها.

إثيوبيا تشهد أزمة عرقية من نوع آخر، ساحتها منطقة بنى شنقول- قوميز، حيث يقع «سد النهضة» داخل إثيوبيا قرب الحدود مع السودان، مساحتها قرابة ٥١ ألف كم٢، يقطنها قرابة مليون نسمة، وهى أرض سودانية غنية بالمعادن والذهب، سلمها الإنجليز لإثيوبيا بعد سقوط مملكة سنار التى كانت تحكمها فى القرن التاسع عشر.. أهلها نتاج لعلاقات المصاهرة والتزاوج بين العرب السودانيين وأهل النوبة من مصر والسودان، السلطات الإثيوبية تعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية، ما يفسر تمرداتهم على السلطة المركزية منذ ١٩٣١، ومطالبتهم بالحكم الذاتى والعودة إلى السودان، الوطن الأم.
الحركة الشعبية لتحرير بنى شنقول نشأت مطلع التسعينيات، وتأثرت بنهج حسن الترابى نتيجة روابط النسب مع عائلته.. تبنت الدعوة لحق تقرير المصير كمقدمة للاتحاد مع السودان، انخرطت عام ١٩٩٦ فى جبهة الوحدة الإثيوبية، وتلقت مساعدات سودانية، كما انضمت عام ١٩٩٧ إلى الجبهة المتحدة القومية الديمقراطية الإثيوبية.. لكن المصالحة الإثيوبية السودانية ونشوب الحرب الإثيوبية الإريترية عرقلا تحركاتها عبر الحدود، فتراجع نشاطها، ما فرض التوصل إلى اتفاق سلام مع الحكومة الإثيوبية عام ٢٠٠٥، لكنه انهار بعد عام، وواصلت الكفاح المسلح، قبل أن تعلن عن إنهائه وعودة مسلحيها لأراضيهم فى يونيو ٢٠١٣.. إلا أنها سرعان ما استأنفت العمليات العسكرية من جديد، كرد فعل لتحرش السلطات الإثيوبية بها، وكانت آخر عملياتها فى ١٥ يوليو ٢٠٢٠، عندما دمرت حاملة جنود تابعة للجيش الإثيوبى قضت على كل من فيها، تلتها مذبحة عيد الميلاد التى أودت بحياة ٢٠٧ معظمهم من جنسية الأمهرة.. السفير يوسف ناصر حامد، زعيم الحركة، صرح خلال مارس الماضى ٢٠٢٠ «بأنهم سيتقدمون بملف لجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقى للمطالبة بحق تقرير المصير والاستقلال، وهم يطمعون فى دعم مصر الدبلوماسى، لأن الإقليم الذى يضم سد إثيوبيا هو إقليم عربى».. وهو تصريح بالغ الأهمية والدلالة، يفرض كثيرًا من التقدير والدراسة.
هذه التطورات لا تعكس أزمة نظام الحكم الإثيوبى فحسب، وإنما تؤكد هشاشة الدولة الإثيوبية نفسها، وضعف تماسكها القومى والسياسى.. وتلك مقدمة للتساؤل: كيف فتح الصراع الطائفى بين القوميات فى إثيوبيا ساحة إقليمية جديدة وخطيرة للحرب؟!.. وما موضع ذلك ضمن عناصر أزمة «سد النهضة»؟! وما قدرة السودان ومصر على توظيفه لصالحهما؟!.. موعدنا الجمعة المقبل إن شاء الله.