رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المُفكر التونسى عزالدين عناية: المجتمعات العربية دخلت حِقبة نزع القداسة عن الإسلام السياسى

المُفكر التونسى عزالدين
المُفكر التونسى عزالدين عناية

منذ ما يربو عن ثلاثة عقود، بدأ المفكر التونسى عزالدين عناية مشروعه الفكرى انطلاقًا من محاولة جادة لتطبيق المنهج العلمى فى قراءة الدين، ففضلًا عن عمله كمحاضر فى إحدى الجامعات الإيطالية، كتب وترجم العديد من الأعمال البارزة فى الفكر الدينى، فمن مؤلفاته البارزة: «الأديان الإبراهيمية: قضايا الراهن»، و«العقل الإسلامى»، و«رسالة إلى أخى المسيحى»، و«الدين فى الغرب»، و«نحن والمسيحية فى العالم العربى وفى العالم»، أما فى مجال الترجمة فنُشِر له عدد من الترجمات منها «علم الاجتماع الدينى»، لسابينو آكوافيفا، و«علم الأديان» لميشال مسلان، و«الإسلام فى أوروبا» لإنزو باتشى و«الفكر المسيحى المعاصر» لبرونو فورتى، و«السوق الدينية فى الغرب» لمجموعة من المؤلفين.
فى هذا الحوار مع المفكر التونسى البارز نتطرّق إلى جملة من القضايا التى أثارها فى بعض مؤلفاته، على رأسها إشكاليات الفكر الدينى فى العالم العربى وسُبل التغلب على مآزق العقل الإسلامى بُغية تأسيس وعى يمكن من خلاله كشف ألاعيب تيارات مُستغِلة للنصوص الدينية ولقداسة الدين تحقيقًا لمصالحها الخاصة.


■ فى كتابك «العقل الإسلامى.. عوائق التحرر وتحديات الانبعاث» قلت إن «تيارات الإسلام السياسى هى الكارثة الصامتة التى هزّت وعى الفرد فى العالم العربى»، ودعوت إلى فحص آثارها على الواقع العربى.. فى ظل ما آلت إليه الأوضاع العربية جراء تصدر تلك التيارات.. هل يمكن القول بأن ثمة وعيًا مُدرِكًا لإشكالات تلك التيارات قد نما فى العالم العربى بما يؤذن بتجاوز أطروحاتها؟
- يعود ارتهان التصورات الدينية لدى العرب، فى الحقبة المعاصرة، لباراديغم الإسلام السياسى، إلى وهن الطروحات النقدية فى الفكر الدينى. وسيظلّ هذا الارتهان ما ظلّ الفكر النقدى والتفكير العقلانى واهنين فى الساحة الثقافية العربية. والحال أنّ الاختزال الأيديولوجى للإسلام قد مثّل ضربة قاصمة لرحابة الدين الحنيف. ولذلك يبقى الإسلام الحضارى بأبعاده الشاملة هو الردّ الواعى على محاولات الاختزال. فمعضلتنا الدينية الكبرى فى البلاد العربية أن الإسلام السياسى الذى يناهز حضوره فى أوساط المجتمعات القرن قد جرّب كل تجارب التغيير «الانتفاضات، الاغتيالات، اغتنام السلطة واحتكار تسييرها، صناديق الاقتراع، التحالفات، الوفاقات» إلا تجربة الرهان على التغيير الفكرى والروحى البعيد الغور. وحين نقول الفكرى والروحى نقصد التعويل على مرجعية تراهن على الطروحات المعرفية القادرة على إحداث نقلة نوعية فى عمق المجتمعات بعيدًا عن التجييش والتحشيد الخاويين.
فما من شك أنّ ثمة عوامل موضوعية بدأت تفعل فعلها فى المجتمعات العربية، بما يؤذن بتجاوز أطروحات الإسلام السياسى، وتتمثّل تحديدًا فى الإدراك الجمعى أن عملية النهوض أكبر من قدرات الإسلام السياسى، لأن كل عملية نهوض- وببساطة- تقوم على مخطط عقلانى وعلى مسار واقعى واستراتيجيات مقاصدية، وهذا مستحيل إذا ما عوّلنا على الإسلام السياسى.
■ فى هذا الصدد، ما توقعاتك لمستقبل الإسلام السياسى فى العالم العربى انطلاقًا مما حدث خلال السنوات العشر الأخيرة؟
- طَبعت البلاد العربية مع الإسلام السياسى حالة صراع دورية، امتدّت على مدى عقود، هُدرت فيها طاقات جبارة وأُتلفت فيها جهود هائلة وقد طالت جل البلدان تقريبًا. يشبه العود المتكرّر للسقوط فى دائرة الصراعات مع الإسلام السياسى العود الأبدى الذى يتحدث عنه كلود ليفى ستروس. وقد كان بالإمكان تلافى تلك الانشقاقات الاجتماعية لو تسنى شىء من النقد الذاتى لدى الأطراف المتصارعة.
وقد تسنّى فى العشرية المنقضية، بعد طول صراع، وضْع تجربة الإسلام السياسى فى تونس والمغرب على المحك. خاض فيها تجربة مخبرية، عبر المشاركة فى اللعبة السياسية، وهى ذات دلالات عميقة ليس فى البلاد المغاربية فحسب بل فى بلاد العرب بأسرها. حيث أدركت الأطراف السياسية، على اختلاف توجهاتها الأيديولوجية فى ذينك البلدين، عبثية النفى المتبادَل، والعيش فى مناخ مأزوم محكوم بالغلبة والاحتدام الدائمين، إلى محاولة إيجاد حد أدنى لأرضية مشتركة تضع نصب عينيها المصلحة الوطنية وتقدّر الحاجة الماسة إلى السلم الاجتماعى لغرض التوجه للتنمية والنهوض. استطاع فيها الإسلام السياسى أن يتطهّر من عديد المساوئ، إن لم نقل الأوهام والأحلام، فى النظر للحياة السياسية وللأطراف الشريكة فى العملية السياسية ولمفهوم التغيير الاجتماعى برمّته. وليس من الهين بلوغ تلك المعادلة، لأن الأمر يتطلّب تنازلات من جميع الأطراف للنجاة بأوطاننا من التفتت فى ظرف عصيب تمرّ به البلاد العربية.
إذ بَيّن حصاد السنوات العشر الماضية التى شارك فيها الإسلام السياسى فى اللعبة السياسية، فى بلدان مختلفة وبأشكال متنوعة، أن الإسلام السياسى، على مثال غيره من التوجهات، هو نتاج بنية مهترئة، وأنه لا يتميز كثيرًا عن غيره من طروحات التغيير السياسى. الأمر الذى جعل جملةً من المتابِعين الغربيّين لظاهرة الإسلام السياسى يتقاسَمون توصيفه «بالقلق البنيوىّ» فى حديثهم عن الظاهرة. وما جعل الشارع يستفيق على خفوت بريق الإسلام السياسى وعلى تراجع آمال التغيير الملقاة على عاتقه. فهو تجربة سياسية عرضة للنجاح والفشل مثل سائر التجارب، العلمانية والقومية والاشتراكية. وربما السنوات المقبلة ستثبت بشكل أوضح انتهاء طهرانية الإسلام السياسى، ودخول المجتمعات العربية حقبة نزع القداسة ونزع الأسطرة عنه.
■ قلت إن تحرير العقل الإسلامى من الغيبية والأسطورية والعاطفية شرط أساسى لتطوير العقلانية الإسلامية.. لِم عجز العقل الإسلامى على مدار قرون عن التخلص من ذلك المثلث رغم الأطروحات الفكرية الجادة فى هذا الصدد؟
- ليس ثالوث الغيبية والأسطورية والعاطفية المتربص بالعقل الإسلامى بالشىء الهين، فهى مكونات متجذرة بقوة فى تمثّل الدارس المؤمن للدين ووعيه بالعالم، وكما يتشبع المرء بها من خلال درس العلوم الشرعية يستبطنها أيضًا من خلال الرؤية المؤسطَرة عن الكون. نحن أمام حاجة ملحة لإقامة ورشات للنقد الدينى للتخلص من براثن اللامعقول المستحكم بالعقل الإسلامى، وهو ما لا يمكن بلوغه سوى بإعادة ردّ الاعتبار إلى ما بين الشريعة والحكمة من اتصال على النمط الرشدى. فقد تسنّى للفكر الدينى الخامل، على مدى القرن الفائت، إحداث فرز خطير، حوَّلَ بموجبه، كل من لا يقبل بالتفكير الغيبى والأسطورى والعاطفى، إلى خارجى، وصنّف منجزات التيار العقلانى وأعلامه ضمن ما هو ضال وهدّام ومنحرف. وهكذا فقد عقل المسلم تواصله مع الحداثة، ومع العقلانية، ومع المقاربات العلمية، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا.
ولو شئنا لقلنا إنّ المسألة أبعد من ذلك، فالعقل الإسلامى فى رحلته المترنّحة منذ عصر النهضة، بين الانغلاق والانفتاح، لم يراهن بما يكفى على عَلْمَوَة الفهم الدينى. أقصد الاعتماد على المقاربات العلمية فى فهم الوقائع الدينية وتحليل الظواهر بتجرّد وإعطاء سند منطقى للمقول الدينى. الأمر الذى جعل الفكر الدينى لدينا تكراريًا اجتراريًا ومنفعلًا لا فاعلًا.
إن إعادة بناء العقل الإسلامى ليتواصل مع منجَز الفكر العالمى فى وعى قضايا الدين والاجتماع، هو مما يتطلّب إيمانًا عميقًا بسموّ طرحنا الحضارى وأصالته. أحاول من جانبى، بوصفى ابن جامعة دينية عربية قبل التحاقى بالغرب، أقصد جامعة الزيتونة فى تونس، أن أرسخ تقليد المناهج العلمية الحديثة فى قراءة الظواهر الدينية بالترجمة والكتابة، وتحديدًا المنهج السوسيولوجى. فسوسيولوجيا الدين وسوسيولوجيا الأديان يمكن أن تسهم كلتاهما فى مقاربة الأوضاع الدينية لدينا، وأن يكون لهما إسهام فى دمج الوعى الدينى فى سياق فاعل ومسئول، لا مغترب ولا مضطرب.
■ إلى أى مدى يمكن القول إن الفكر العربى مُكبّل بسؤال الموقف المفترض من التراث لا سيّما الدينى، دون أن يُنتج ذلك تغييرًا على أرض الواقع فيما يتعلق برؤية حضارية للدين وموقعه فى الحياة؟
- نحن على الأغلب نعيش برؤى السلف فى فهم تمثّلاتنا للدين، ولذلك سرعان ما نهرع للمقايسة والمقارنة مع ما مضى مع كل طارئ يطرأ على حياتنا. وفى ضوء ذلك من الصعب أن نخوض عملية تفكيك حقيقية لموروثنا فى غياب توظيف أدوات جديدة. ففى كثير من الأحيان نعيش علاقة مغتربة مع التراث، نحاول أن نبذل قصارى جهدنا فى إبراز أنّ موروثنا قائم على الكمال، فى حين يطالعنا حاضرنا الطافح بشتى أنواع النقص. ونصرّ على أنّ لدينا من الرصيد الكافى والشافى فى سائر المجالات، وبما يفوق تجارب أُمم أخرى، والحال أن مجتمعاتنا الراهنة من أكثر المجتمعات تردّيا على كثير من الأصعدة. والواضح أن الفكاك من دوّامة الالتباس تلك مشروط بقراءة نقدية للأمور.
وبالإضافة إلى ذلك لدينا عطلٌ مستشرٍ فى الفكر الدينى وهدرٌ للطاقات فى مسالك كلاسيكية غير مجدية، كان من الأحرى تحويل القدرات فيه باتجاه مسارات فيها نفعٌ للناس، لأن المعرفة معنية بأن تواكب حاجات الناس لا أن تغترب عنهم، وكمْ لدينا من حاجات ملحة ولكنّنا نتلهى فى كلياتنا الدينية بفنتازيا الغيبيات؟! أضرب أمثلة سريعة حتى لا نبقى فى نطاق العموميات «الباحثة فرانشيسكا روزاتى خبيرة فى حاضر الإسلام وماضيه فى الصين، والباحثة باولا بيزّو خبيرة فى المسيحية الفلسطينية، والباحثة أريانه دوتونى خبيرة فى المخطوطات اليمنية، ويمكن الاطلاع على أبحاثهن القيمة فى الشأن وهنّ من الباحثات الإيطاليات الشابات». فهل فى البلاد العربية ثمة انشغال فى جامعاتنا بهذه المجالات وغيرها مما يمسّ حضورنا فى هذا العالم؟ لا شك أن لدينا تراثًا عظيمًا بَيْد أن ذلك التراث ينبغى ألا يَحُول بيننا وبين اندماجنا فى هذا العالم، وألا يشكّل عقبة لدينا أمام إعادة بناء تمثلاتنا للقضايا والمفاهيم وانطلاقتنا المستمرة فى الكون.
فما نتطلّع إليه هو أن تقوم علاقتنا بالتراث ضمن إطار جدلى لا إطار حميمى، وتتأسس على منهج موضوعى لا على نزعة قدسية، أقصد ذلك المنهج القائم على الوعى بآليات تشكّل المعرفة وبشروطها الاجتماعية. فنحن حين نستعيد الحديث عن مؤسسة «أهل الذمة»- على سبيل المثال- لا نعيد النظر فيها ضمن التطرق للشروط الاجتماعية والدينية التى ولّدتها، ومدى مشروعية حضورها وغيابها اليوم، وضمن أى تعقل تاريخى؟ بل نستعيد أفكار الماضى ومؤسساته وتنظيماته بنوع من القداسة. بإيجاز ثمة تاريخانية فى النظر للمؤسسات والوقائع والأفكار والفتاوى تغيب عن ذهن الدارس المسلم.
■ كيف ترى التوجهات الأوروبية لتحجيم ومحاربة الإسلام السياسى؟ هل يتزامن مع تكثيف تلك التحركات تعزيز الإسلاموفوبيا؟
- ينبغى ألا نهوّل الأمور بشأن الإسلام السياسى فى الغرب، وأن يأخذ الموضوع حجمه الحقيقى لدينا. فنحن كأوروبيين مسلمين لا نعد الإسلام السياسى عنصرًا مهمًا بالنسبة إلينا، لأننا نعيش وضعًا مغايرًا- لأوضاع البلدان العربية- فيه «السوق الدينية» مشرّعة الأبواب على العديد من العارضين، ويتقلّص فيها الاحتكار من أى طرف كان. صحيح يطبع هوية المسلم الأوروبى مَلْمح شفّاف عربى أو إسلامى، يطالب من خلاله بحقوقه الثقافية على غرار سائر التقاليد الدينية الأخرى، ومن داخل ما تسمح به قوانين تلك البلدان. ومن ثَمّ هناك مساحة مدنية ينشط فيها الإسلام المهاجر تُمثّلها الجمعيات والمراكز والمساجد والمصليات، بَيْد أن تلك المساحة المدنية بدأت تتسرب إليها الشكوك والريبة تحت مبررات أمنية وتهديدات إرهابية وهجرة فوضوية، وهو ما قاد بالنهاية إلى أشكال من التضييق والنفور والتخوف تلخّصت فيما يُعرف بالإسلاموفوبيا. وهى بالأساس نتاج تقصير المسلمين الغربيين فى الحضور فى المجال العام، وعدم إيلائهم الجانب الثقافى أهمية. فلا ننسى أن السواد الأعظم من المسلمين فى الغرب هم من الشرائح العمالية الكادحة التى لا يعنيها كثيرًا العمل الثقافى والمعرفى والفنى. وبالتالى يسهل الإيقاع بتلك الحشود. ومما لا ريب فيه أن الإسلام الأوروبى ينطوى على العديد من عناصر الوهن بداخله، وأنه لا يزال إسلامًا فلكلوريًا، على الأغلب، ولم تشقه تحولات فكرية وتلونات ثقافية، تسمح له ببناء منظور منسجم مع مجتمعات معلمَنة وذات مخزون ثقافى كِتابى ترعاه جامعات ومؤسسات أبحاث ووسائل إعلام مؤثرة.
■ تعرّضت فى كتابك «الدين فى الغرب» لإشكالية الإسلاموفوبيا وشددت على أهمية بناء تعددية ثقافية حقيقية لمواجهة تلك الظاهرة ولمجابهة «الاستعلاء الغربى» كذلك.. كيف يمكن تحقيق ذلك فى ظل القراءات الدينية الإقصائية؟ وما السبيل للخروج من ذلك المأزق؟
- ما من شك أن هناك توجهات متصلّبة فى الغرب ما فتئت تُنكر أن الغرب قد اخترقته التعددية الدينية والثقافية، وباتت المجتمعات فيه ذات طابع كوزموبوليتى، وهى بالأساس توجهات يمينية وكَنَسيّة، وعادة ما تحرّض على المسلمين أو تختلق المبررات لتعطيل اكتسابهم حقوقهم، مثل الاعتراف بدينهم على غرار سائر التقاليد الأخرى، أو حصولهم على عائدات الخصوم الضريبية مثلما يُعرف بـ«الثمانية من الألف» فى إيطاليا لتطوير أوضاعهم الثقافية والتعليمية، مع أنهم يمثلون الديانة الثانية فى كثير من البلدان.
تسهم تلك العناصر وغيرها فى خلق مناخات الإسلاموفوبيا وتدفع للتوتّر، ولكن يبقى الشرط الرئيس للخروج من تلك الأجواء هو فى إقامة شراكة ثقافية حقيقية بين مسلمى الغرب والمجتمعات الحاضنة، ويمكن أن ينضمّ إليها الساعون بصدق إلى حوار الحضارات والثقافات من خارج. ولكن أن تُحارَب الإسلاموفوبيا بالتعنت والتناقض مع الغرب على مستوى الزى والمظهر والهيئة، إنما ذلك ينمّ عن سطحية فى فهم أبعاد الدين الحضارية.
■ هل يمكن اعتبار الحل العلمانى، العلمانية الشاملة كما طرحها المسيرى، ركيزة يمكن من خلالها تجاوز أزمات الواقع الدينى فى العالم العربى؟ أم أن ثمة إشكاليات تحول دون تحقيق ذلك؟
- العالم العربى قادر على أن يشقّ مساراته فى التاريخ بيسر إن آمن بقدراته الحضارية، فى صوغ مخارج وحلول لقضاياه السياسية والاجتماعية والدينية، لأن الاتكال على تجارب الغير واستيرادها، من علمانية شاملة أو ناقصة ومحاكاتها، مدعاة لمفاقمة حالة الاغتراب. وحتى لو توهّم الساعون أنّ الحل فى العلمانية، فالعلمانية علمانيات، وقد بلغنا إلى ما بعد العلمانية بحسب عبارة أرباب التنظير لها: شارل تايلور وجوزى كازانوفا وبيتر لودفيغ بيرجر. ولذا من المجدى ألا نعلّق آمالًا كبرى على تجارب الآخرين، لأن العلمانية فى فحواها العميق هى نمط عيش- سمّه ما شئت علمانية أو حكمانية- تواضَعَ عليه القوم ليحفظوا السلم الاجتماعى فى مجتمعاتهم.
وبالتالى العلمانية لها أوجه متعددة، ونحن كمسلمين فى الغرب نعيش فى كنف العلمانية وننعم بمزاياها. ولْنَكن صرحاء، نحن كشريحة اجتماعية ذات أصول عربية وإسلامية، أقرب إلى العلمانيين الغربيين منه إلى المتديّنين، فى اختياراتنا الحزبية والانتخابية.
■ كيف تقرأ مواقف الإسلاميين من القضية الفلسطينية لا سيّما فى ظل تأرجح مواقفهم حاليًا إزاء توجه بعض الدول للتطبيع مع إسرائيل؟
- الإسلاميون على غرار غيرهم من التيارات السياسية العربية لديهم رصيد هائل من العواطف الهوجاء تجاه فلسطين وإسرائيل، ولا يحرّكهم فى غالب الأحيان الوعى بالقضايا التاريخية والسياسية والدينية للمنطقة، بل الحماس وردود الأفعال. والواقع أنه ليست هناك مواقف ثابتة. ما إن تدخل الأحزاب معترك التنافس والحكم تتحول المبادئ إلى مواقف براغماتية، وتتراجع الشعارات الكبرى أو تغدو جوفاء. وأحزاب الإسلام السياسى إن دخلت اللعبة السياسية صعب أن تثبت على مواقفها التقليدية من التطبيع وإسرائيل، وربما تلك التى تبقى منها خارج العملية السياسية يمكن أن تتابع التواصل مع الجماهير بخطاب طهرى رافض للتطبيع.
هل يمكن القول إن الخطاب الدينى السائد حاليًا يستند إلى أيديولوجية الإسلام السياسى بدرجة ما؟ وكيف يمكن تصحيح مساره؟
- نفتقر فى البلاد العربية إلى أرضية معرفية عميقة للفكر الدينى، تستند إلى الطروحات العلمية والمعرفية المتأتية من حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولذلك غالبًا ما نغرق فى الجدل الأيديولوجى بشأن الدين وسرعان ما يقع الخطاب لدينا فى براثن التأدلج والتوظيف والتلاعب من سائر الأطراف الساعية لاحتكار الرأسمال القداسى، فلا يزال الفكر الدينى- فى مجمله- فى بلاد العرب مُرتهنًا للنظر الكلاسيكى، وهو ما يقلّص من قدراته. إذ تبدو القطيعة التى يعانيها الفكر الدينى العربى مع نداءات التجدد الداخلى جلية وواضحة.
كان لفيف من المفكرين المسلمين والعرب قد تطرّقوا للأمر، على مدى القرن الفائت، بحزم وعمق، سواء مع محمد إقبال، أو على شريعتى، أو مالك بن نبى، أو حسن حنفى، أو أحميدة النيفر وغيرهم، ولكن الآثار لا تزال ضئيلة ودون ما هو مأمول. فما من شك أن خطورة الأدْلَجة حين تتحكّم بالخطاب الدينى، أن تطبع العالم بثنائية مانَوية مؤثرة، نحن وهُم، حقّ وباطل، صواب وضلال، والحال أن ساحة الفكر وتعقّدات الواقع أوسع من تلك الثنائيات وأشمل.