رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شهادة رئيس الطائفة الإنجيلية فى البابا كيرلس السادس


القس إبراهيم سعيد، رئيس الطائفة الإنجيلية، قال عن البابا كيرلس السادس بعدد جريدة «مصر» الصادر صباح الثلاثاء ١٠ مايو ١٩٦٠ «فى العام الأول لرسامة البابا كيرلس السادس»:
لما خلا الكرسى البطريركى فى السنوات الأخيرة، بانتقال الأنبا يوساب بطريرك الكرازة المرقسية إلى السماء كنت مع غيرى نترقب الرجل الذى يملأ هذا المكان الذى ظل شاغرًا مدة غير قصيرة من الزمن.
وكنت أخشى أن يدب فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية شىء من الخلاف- ولا أقول الانقسام- لأن جانبًا كبيرًا منها كان ميالًا إلى اختيار بطريرك من الشباب الجامعى، وكان جانب آخر راغبًا فى اختيار البطريرك من رجال الخبرة والتقوى والتثقيف بصرف النظر عن درجاته العلمية.
ولما استقر الأمر على اختيار البطريرك عن طريق إجراء القرعة الهيكلية، ازددت شوقًا وتلهفًا لمعرفة النتيجة، لأن القرعة الهيكلية كانت غريبة عن ذهنى. وحين وقعت القرعة الهيكلية على «القمص مينا المتوحد»- ولم تكن لى به سابق معرفة زادت علامات الاستفهام أمامى؟ ومع أننى أرقت إليه مغتبطًا بنجاحه، إلا أننى لم أذهب إلى دير «مار مينا» لتهنئته، منتظرًا أن أهنئه بنفسى يوم تتويجه. غير أننى رأيت لزامًا علىّ أن أزوره فى مقره الأصيل، فضربت موعدًا مع صديقى المفضال الأب مكارى السريانى «فيما بعد الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة والاجتماعية الذى استُشهد فى حادث المنصة فى ٦ أكتوبر ١٩٨١».
وهناك التقيت به مع جَمع من مرتقبى قدومه، فألفيته مهيب الطلعة، فارغ الطول، تحيط به هالة من الوقار والجلال، فى غير ما صلف ولا ادعاء، فحيَّانا مبتسمًا، وقال لى: «أنا أعرفك وأسمع عن جهادك ودائمًا أدعو الله لأجلك فى كفاحك»، فأخذ بمجامع قلبى، واعتقدت لأول وهلة أنه من الطراز القليل من البشر الذى يوحى إليك باحترامه، بل ويرغمك على احترامه وتقديره.
ولا عجب فقد صرف الجانب الأكبر من حياته فى إخلاء ذاته، مترفعًا عن الدنيا، هاربًا من ذهبها، فذهب ذهبها يركض وراءه حتى توج هامته. وهذا الرجل الذى عرف كيف يروّض الوحوش فليس بعسير عليه أن يروّض البشر وهم صاغرون.
وبعد مُضى أسبوع على هذه الزيارة، حضرت حفلة رسامته فأخذت بروعة نظامها، لكن أعظم شىء أثر فى نفسى حتى بلغ بها السويداء، هو تلك الدموع الغزيرة التى كانت تتساقط من عينيه أمام باب الهيكل قُبيل تتويجه، فكانت فى نظرى أغلى ثمنًا، وأعظم قدرًا من اللآلئ التى ترصع بها تاجه. وبعد يومين حظيت بزيارته لتهنئته مع اثنين من زملائى، فألفيته له عينان صافيتان فاحصتان، يرسل الابتسامة من غير سخرية، ويلقى نظرة صارمة على كل من لا يرضى عنه. وأعتقد أن الكلمات التى اتخذها شعارًا له من أحد القديسين تنطبق عليه تمام الانطباق، فهو الرجل الذى هرب من الدنيا، فركضت الدنيا خلفه، وهو الذى ترفع عن غناها. عهدى به، مهيب الطلعة، طليق المُحيا، فارتفع غناها إليه. وقلت له فى تلك المقابلة: «من يدرى ربما لوقت مثل هذا قد أقامك الرب».. فهو هبة من الله فى القرن العشرين للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. «أتته الكرازة منقادة إليه تجر أذيالها، فلم تك تصلح إلا له.. ولم يك يصلح إلا لها، ولو رامها أحد غيره.. لزلزلت الأرض زلزالها، ولو لم تطعه نياط القلوب.. لما قبل الله أعمالها».
البابا يتمنى الوحدة المسيحية: رأيت فيه هذا، وإلى جانب كل هذا لمست فيه وداعة، واحترامًا للغير وتقديرًا لمشاعر الآخرين مع احترامه التام لحرية عقيدتهم، فألفيت فيه خير معوان على حل كل مشكلة تطرأ عليه متعاونًا مع بعض رجال كنيسة الأقباط الإنجيليين والكنيسة القبطية الكاثوليكية، فأعطى كل ذى حق حقه. وهذا ما يبعث فىّ وطيد الأمل، إنه يكون عاملًا قويًا لحل المشكلات المُعلقة نتيجة التركة الموروثة المُثقلة. غير أننى لا أنسى أن مهمته خطيرة ودقيقة وشاقة، وأنا واثق من أن منكبيه العريضين كفيلان بتحملها، وأن قلبه الكبير، وصدره الرحب كفيلان بالتصرف فيها، وكم أعجبنى قوله، إنه مستعد أن يتعاون مع الأقباط الكاثوليك والأقباط الإنجيليين ليحمل معهم كل الأعباء الثقال والمهام الجسام بروح الوحدة ورباط السلام.
والقس إبراهيم سعيد «١٥ يوليو ١٨٩٥- ٥ مايو ١٩٧٠»، نذكر خدمته بكل فخر واعتزاز فهو «البنّاء الحكيم» و«الواعظ القدير» و«الخادم الأمين». نذكر له تعبه المبارك فى تأسيس كنيسة «قصر الدوبارة» بميدان التحرير.
فى كلية اللاهوت كان يقوم بتدريس عدة مواد غير مادة اللغة العبرية التى سبق ودرسها على يد حاخام عبرى لمدة ٣ سنوات حتى أتقنها. وفى أثناء قيامه بالتدريس فى كلية اللاهوت طلبت منه «الجمعية الإنجيلية للسوريين» الكائنة بالفجالة- والتى قام السنودس الإنجيلى بتغيير اسمها فيما بعد إلى «كنيسة شارع إبراهيم باشا»- أن يعظ فيها.
ثم وجهته العناية الإلهية إلى قاعة محاضرات جمعية الشبان المسيحية بشارع إبراهيم باشا بالقاهرة، فكان يلتف حوله صباح الآحاد طلاب الجامعة. وبعد أن قضى فى التدريس فى كلية اللاهوت ١٢ سنة، رأى أن يتفرغ للوعظ فقدم استقالته لكلية اللاهوت، وانصرف للوعظ، وقد أقيم حفل تنصيبه راعيًا على كنيسة إبراهيم باشا الإنجيلية فى ١٥ مارس ١٩٤٠.
كان القس إبراهيم سعيد يحلم ببناء بيت للرب. وظل سنين طويلة يتحدث عن «مشروع العمارة»، وكان يثق فى الله الذى سيدبر كل شىء صالح فى الوقت المناسب. كان يسعى لشراء قطعة أرض لبناء بيت للرب، وحدث أن عرض فى عام ١٩٤١ على الأستاذ كامل بشاى قطعة أرض مُقام عليها بناء بشارع السلطان حسين تبلغ مساحتها ١٣٤٠ مترًا مربعًا بثمن ١٣ ألف جنيه، واستشار فى ذلك كلًا من الأستاذ إميل الكسان والأستاذ إلياس مرشاق، وقد وافقا على تلك الأرض.
فى ذلك الوقت لم يكن بالكنيسة سوى ما يقرُب من ٢٠٠٠ جنيه!! وأصحاب العقار كانوا يطلبون ٤٠٠٠ جنيه نقدًا كدفعة أولى. ولكن لأن «بركة الرب تُغنى ولا يزيد معها تعب» فقد دبر الرب كل المتطلبات الخاصة بالشراء، فكان الثلاثة أصدقاء يجتمعون للتشاور بمنزل الأستاذ إميل الكسان، وكان يجتمع معهم د. مكلانهن رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى ذلك الوقت. كان العقار يشغله «قلم قضايا مصلحة الأملاك الأميرية»، ولم يكن للمشترى أن يفسخ عقد الإيجار بسبب القانون الخاص بتنظيم العلاقة بين المُلاك والمستأجرين فى ذلك الوقت.
وظل الحال على هذا المنوال حتى أمكن للمشترين استصدار أمر ملكى ببناء الكنيسة فى مايو ١٩٤٤. وفى أوائل ديسمبر ١٩٤٧ احتفل الجميع بوضع أساسات البناء الذى هو الآن كنيسة «قصر الدوبارة»، وقامت بهذه العملية شركة «إيجيكو». وفور ذلك انهالت التبرعات وتسابقت الفتيات والسيدات فى تقديم مجوهراتهن من أساور وأقراط وصلبان ذهبية. وقد أجريت مسابقة لتصميم عمارة الكنيسة، اكتمل البناء سنة ١٩٥٠. وعندما رأى الملك فاروق الكنيسة فى الميدان الرئيسى بالقاهرة، حزن حيث إنه فى هذه الآونة كان يتمنى أن يصبح خليفة المسلمين بعد أن انتهت الخلافة فى تركيا سنة ١٩٢٣. فأصدر أوامره بألا ترتفع منارة الكنيسة أكثر مما كانت عليه فى ذلك اليوم، وأمر ببناء مبنى حكومى ضخم لكى يخفى الصليب!!. فى يوليو ١٩٥٢ قامت الثورة وتم ترحيل الملك فاروق من مصر إلى إيطاليا. وعندما زار الرئيس جمال عبدالناصر الكنيسة فى عيد القيامة ١٩٥٥، وقتها رحب به القس إبراهيم سعيد وقال للرئيس: «كره الملك فاروق أن يرى صليبًا واحدًا فأرسله الله إلى حيث لا يرى إلا صلبانًا». كان القس إبراهيم سعيد أمينًا فى خدمته إذ حمل رسالته بتقوى وإيمان على مستوى الإعجاز. وفى ٥ مايو ١٩٧٠ انطلق كجبار بأس إلى حياة السمائيين حيث يُكافأ مكافأة الأبرار، وترك لنا سيرة عطرة وكتابات رائعة.
حزن البابا كيرلس السادس على رحيله، وأناب عنه الأنبا صموئيل لحضور الصلوات الجنائزية بكنيسة قصر الدوبارة.