رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا كيرلس السادس.. الأب المُحب


الوفاء فضيلة متأصلة فى أبناء الشعب المصرى بصفة عامة وفى أبناء الكنيسة القبطية بصفة خاصة. فالأجيال المتعاقبة تحمل حبًا ووفاءً للأجيال السابقة لها. وقد تجلى هذا الحب المتدفق عندما يتذكر المرء حياة وأعمال البابا كيرلس السادس «١٩٠٢ - ١٩٧١» البطريرك ١١٦. وهنا أود أن أسجل تلك الكلمات العذبة التى رددها البابا شنودة الثالث «١٩٢٣ - ٢٠١٢» البطريرك ١١٧ فى مناسبات مختلفة وبعضها سمعتها منه شخصيًا فى جلسات منفردة.
قال البابا شنودة الثالث: «كنت أعرف أبونا مينا منذ عام ١٩٤٨، وسكنت فى البيت الذى أقامه للطلبة المغتربين بمصر القديمة بين عامى ١٩٥٠- ١٩٥١ حيث أتمتع بقداساته وصلواته ورعايته وإرشاده فى ذلك الجو الجميل فى كنيسة مار مينا بمصر القديمة. كان كل زائر للكنيسة يذهب للقمص مينا المتوحد لكى يأخذ منه بركة وقربانة (الخبز الذى يتم توزيعه فى الكنائس بعد انتهاء الصلوات)، وكنت فى كل زياراتى لدير السريان فى وادى النطرون أرجع مباشرة إليه فيسألنى عن الرهبان واحدًا واحدًا، لأنه يعرفهم بأسمائهم ويطمئن على كل واحد منهم. وكنا فى دير السريان نعتبر أنفسنا أبناءً له، وكنا نذهب إليه فى أوقات متفرقة ونسترشد برأيه. وعندما ترك دير البراموس وذهب إلى دير الأنبا صموئيل حيث عُين رئيسًا له، عمره وبنى القلالى المتهدمة فيه. كان مُحبًا للأديرة فرعى دير السريان ودير البراموس ودير الأنبا صموئيل وبنى دير مارمينا وبسط محبته على باقى الأديرة. فى هذه الفترة كنت أحب فى أبونا مينا الطيبة والتعبد والهدوء».
ثم يضيف البابا شنودة الثالث قائلًا: «لقد رُشح القمص مينا المتوحد للبطريركية وأصبح فعلًا البابا كيرلس السادس عام ١٩٥٩، وقد حدث بعد أن وقعت القرعة الهيكلية على قداسته ليكون بطريركًا أن جاء لزيارة أديرة وادى النطرون. وعندما أتى إلى دير السريان طُلب منى إلقاء كلمة تحية للأب المُختار للبابوية فتكلمت قليلًا، وإذ به يمسك منديله ويمسح عينيه من الدموع. وتأثرت كثيرًا ببكائه أمام جميع الناس».
ثم يضيف البابا شنودة: «بدأ يحتضن الرهبان خدام مدارس الأحد كما أحب أن أسميهم. وقد دُعيت فى ذلك الوقت لأكون سكرتيرًا للبابا، وعندما حاولت الاعتذار، قيل لى إن الأمر لن يستغرق سوى شهور قليلة لوضع بعض اللوائح والقوانين».
ويضيف: «كان أول عمل كنسى قمت به وأنا سكرتير للبابا هو وضع طقس ترقية مطران إثيوبيا برسامته (جاثليق). ثم طلب منى أن أضع لائحة للجان الكنائس وأعبائها المالية والإدارية، وأن أكون سكرتيرًا للجنة المشروعات الكنسية التى تضم ١٢ مطرانًا، وسكرتيرًا للجنة القوانين الكنسية».
كان البابا كيرلس قد استحضر أربعة من الرهبان الجامعيين للعمل معه. ولكنه كان يوازن بينهم وبين الآخرين أى بينهم وبين التقليديين، وكان التقليديون هم الأقوى.
ظل الكرسى البابوى شاغرًا ثلاث سنوات كاملة بين وفاة البابا يوساب الثانى عام ١٩٥٦ واعتلاء البابا كيرلس السادس عام ١٩٥٩، وهى ثلاث سنوات حاملة بالأسرار والغموض إلى الآن. كان واضحًا أن تيار «مدارس الأحد» هو التيار الأقوى، وأن هذا التيار هو الذى بات أحد أفراده مرشحًا لملء الكرسى الشاغر. وكان المجمع المقدس - ولا يزال- هو العمود الفقرى للرئاسة الكهنوتية. وفى ذلك الوقت كان المجمع يضم القوى التقليدية المستعدة دومًا للذهاب بعيدًا إذا اقترب أحد من سلطتها!! لذلك قام المجمع المقدس بتغيير اللائحة بحيث يستحيل الترشيح للمركز البابوى لمن هم أقل من أربعين عامًا.
وكان معظم شباب «مدارس الأحد» أو الرهبان الجدد أقل من الأربعين بعام أو اثنين. ولذلك لم يعد واردًا وصول أحدهم إلى مقعد الرئاسة الكنسية العليا، وأصبح همهم الوحيد العمل على توصيل القمص مينا المتوحد، أبوهم الروحى، إلى هذا المقعد. ولم يكن الأمر سهلًا. كان لا بد من كسب الأنصار فى صفوف المجلس الملى وفى صفوف الدولة وفى صفوف الإكليروس، وكانت شعبية أبونا مينا كاسحة فى صفوف الشعب. ولكن الأمر مع ذلك احتاج إلى ثلاث سنوات كاملة حتى وصل القمص مينا إلى الكرسى البابوى.
كان البابا كيرلس يعمل حسابًا قبل أى قرار يتخذه للمطارنة والأساقفة الذين يرفضون التجديد، ولكن فى سبتمبر ١٩٦٢ تغير هذا الموقف من جانب البابا كيرلس الذى لم يكن قد رسم أساقفة من أبنائه «تلامذته» بعد، فأقدم على رسامة ثلاثة، أحدهم لإيبارشية بنى سويف، والثانى للخدمات، وكنت الثالث للتعليم.
البابا كيرلس كان يمثل الرهبان القدماء، وقد احتضن فكرًا حديثًا، وعاش بين الفكرين القديم والحديث. كان يساعد على نشر الأفكار الجديدة، وكان يُبقى على بعض الأوضاع القديمة.
لقد بدأ البابا كيرلس التجديد من قبل أن يصبح أسقفًا، ولكنه حين رسم بعض أبنائه «تلامذته» أساقفة كان قد انتصر فعليًا على التقليديين.
فاجأتنى رئاسة دير السريان بأن البابا يطلبنى ولا بد أن أسافر. وسافرت برفقة رئيس الدير فى الرابعة صباحًا. كنت فى جلباب العمل وأرتدى «طاقية» ووصلنا البطريركية فى القاهرة نحو السادسة. لم يكن مستيقظًا سوى البابا. عاتبنى على ثيابى المُهملة وعنفنى على أننى ألقاه بلا «عمامة». وقال لى فجأة: لقد أخذت حظك فى الرهبنة، فاندهشت وقلت: بل إنى لم أترهبن بعد. ثم سألنى: ألا تريد أن تعاون الكنيسة؟، أجبت: بلى، ولكنى لن أترك البرية، قال: ستذهب إلى الإكليريكية وعدد طلابها قليل، فاقترحت عليه أسماء بديلة، قال: كلا، بل أريد قائدًا، قلت: وهل أنا قادر على قيادة نفسى حتى أقود غيرى؟، سألنى: هل قرأت كتابات مار إسحق السريانى؟ «يقصد كتابه عن الرهبانية، وهو يقع فى أربعة مجلدات». قلت: قرأته ونسخته، فعاد يسألنى: وماذا قال مار إسحق عن التواضع؟ أجبت: قال «أريد أن أتكلم عن التواضع ولكنى خائف كمن يريد أن يتكلم عن الله»، وكنت أعرف سلفًا أن هذا الكلام يعجبه، وأخذنا نتكلم عن سير القديسين واحدًا بعد الآخر حتى لم يعد ثمة موضوع محدد نتكلم فيه. وحينئذ صافحه رئيس الدير الذى يصحبنى، وتوجهت بدورى لمصافحته، فإذا به يمسك رأسى بقوة قائلًا: رسمتكم يا شنودة أسقفًا على الكلية الإكليريكية والمعاهد الدينية. ولم أستطع الإفلات فقد كان يتمتع ببنية قوية. ثم وجه إلىّ الحديث: لن تستطيع مغادرة هذا المكان. ثم وجه الحديث إلى رئيس الدير: اذهب وجهز له الثياب. الرسامة هى وضع اليد، وقد تمت، ولا يبقى سوى الإجراءات الاحتفالية فى الكنيسة.
نشعر بمقدار الفراغ الكبير الذى تركه فى كنيستنا، ونرجو أن يذكرنا فى صلواته، فهو يستطيع أن يخدم الكنيسة فى مستقره الحالى أكثر مما كان يخدمها فى الجسد.
حقًا إن الفراغ الكبير الذى تركه البابا كيرلس السادس، الأب المحب، من يستطيع أن يملؤه؟ كان متواضعًا جدًا، كما كان شجاعًا للغاية لأنه لم يكن يخشى أحدًا، ومن هنا كان يسرع فى حل مشاكل أولاده فردًا فردًا، ويتدخل بطريقة مباشرة فى إنقاذ أولاده وشعبه من أى ظلم يتعرضون له.
ونحن، أبناء الإسكندرية التى هى إيبارشية البابا، كنا نشاهد كثيرًا من إخوتنا المسلمين يحضرون إليه ويعرضون عليه مشاكلهم لكى يحلها لهم. فهو الأب المُحب. وكانت محبته نابعة من القلب، فأحس كل فرد بصدق أبوته. كانت أيامًا رائعة ولن تُعوض.