رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يحيى حقى.. الجميل الذى لا يتكرر


تركنا يحيى حقى فى التاسع من ديسمبر عام ١٩٩٢، وانقضى على رحيله ثمانية وعشرون عامًا، وما زال دوره الحقيقى فى الأدب والفكر بحاجة إلى ضوء قوى.. وقد يطول الحديث إذا تكلمنا عن شخصية حقى نادرة المثال، يكفى أن نتذكر أن أديبًا شابًا مغمورًا تقدم بقصة إلى مجلة «المجلة»، التى كان حقى رئيس تحريرها، فطلب من معاونه نشر القصة، لكن المعاون اعتذر فلم تكن ثمة مساحة، كما أن المجلة كانت على وشك أن تطبع، فقال له حقى: «إذن أجّل نشر مقالى الافتتاحى وضع قصة الشاب بدلًا منه»! وقد فضل حقى زمنًا طويلًا النشر فى جريدة «التعاون» المغمورة عن «الأهرام» وغيرها من كبريات الصحف لأنه كان يبحث عن قارئ آخر.
كان خجولًا دمثًا، تجنب الضوضاء وصخب الشهرة، ووصفه الناقد على شلش بعد ندوة معه بقوله: «راح ينظر إلى الحاضرين فى وداعة تارة، ثم ينظر تارة أخرى إلى الأرض ويده اليسرى تقبض على عصاه القصيرة فى قلق ظاهر، كأنما يقول فى نفسه: ماذا جنيت حتى يتفرج علىّ الناس هكذا؟».. وعندما قال نجيب محفوظ: «كنت أتمنى لو أن جائزة نوبل ذهبت إلى يحيى حقى»، رد حقى بعذوبة: «وجدنى الأكبر سنًا فى الوسط الأدبى، فأراد أن يجبر بخاطرى».
كان حقى رأس المدرسة الحديثة فى الأدب التى نشأت فى العشرينيات، وطالبت بأن يكون لمصر أدبها المصرى متفاعلًا بذلك- على المستوى الأدبى- مع بلورة القومية المصرية التى فجرتها ثورة ١٩، وكان أحد الرواد الأوائل لفن القصة القصيرة منذ ولادتها مع محمود طاهر لاشين والأخوين عيسى وشحاتة عبيد.
وقد ولد حقى ونشأ فى درب «الميضة» خلف مقام السيدة زينب، ثم عاش فى منطقة الخليفة، وسقته تلك النشأة الروح الشعبية المصرية، فظل يدافع عن تلك الروح حتى النهاية، وقد كان جده لأبيه مباشرة وافدًا تركيًا جاء من اليونان واستقر فى مصر، وكانت السمات التركية واضحة فى ملامح وبشرة يحيى حقى، لكن عندما كان البعض يذكره مازحًا بأنه من أصول تركية كان يجيبه بقوله: «لو عصرتم دمى بمعصرة القصب، ستجدونى مصريًا حتى آخر قطرة».. أنهى عام ١٩٢٥ مدرسة الحقوق السلطانية العليا فى جامعة فؤاد الأول، والتحق بالعمل الدبلوماسى فترة، ثم عُيّن مديرًا لمصلحة الفنون عام ١٩٥٥ فكان أول وآخر مدير لها، إذ ألغيت بعد ذلك بثلاثة أعوام، لكن الأدب والفن ظل شاغله الأول فترك لنا نحو أربعين كتابًا ما بين القصة والرواية والنقد والفكر الأدبى والتاريخى، لعل أشهرها روايته «قنديل أم هاشم» ١٩٤٠، التى بنيت على مرض بطلتها فاطمة بسرطان فى العين، والعجيب أن يموت يحيى حقى بالمرض نفسه بعد نصف قرن من الرواية التى جلبت له الشهرة.
وعند الحديث عن دور يحيى حقى المتفرد، سأتوقف عند انغماسه فى البحث الدءوب عن الفن الشعبى المصرى وإبرازه، وقد كان أول من اقترح ودعا وتحرك لإنشاء فرقة فنون شعبية عام ١٩٥٥، وكان أول من قدم عازف طبلة شعبيًا فى حفل ضم الرئيسين عبدالناصر وجوزيف تيتو، وقال حقى بعد ذلك: «كان ضارب الطبلة ذاك أول منفذ للفنون الشعبية إلى حصن الدولة»، فأقيم للمرة الأولى مهرجان للفنون الشعبية، ثم قدم حقى أوبريت «يا ليل يا عين»، وهو مجموعة مشاهد من الفنون الشعبية بالمحافظات.
ظل هذا الاهتمام ملازمًا ليحيى حقى لا يفارقه، لذلك نجده يلاحق بالنقد والتقريظ كتّاب الأغانى، مثل فتحى قورة ويقول عنه: «إنه بهلوان الوزن والقافية»، ويمتدح أن قورة استطاع تقفية كلمة «ما أعرفش» المصرية مع الكلمة الأجنبية «فرى متش» فى أغنية «آلو آلو إحنا هنا» لشادية.. وحين يكتب حقى عن الموسيقى- وهو الأديب المصرى الوحيد الذى تطرق للموسيقى فى كتاب منفرد هو «تعال معى إلى الكونسير»- فإنه يضع سيد درويش فى صدارة اهتمامه لأهمية درويش فى التعبير عن الروح الشعبية.
لم يفارق البحث عن الروح الشعبية وتجلياتها عملًا من أعمال حقى، وأخطر ما تجلى منه فى ذلك المضمار هو بحثه المستمر عن ممر وقناة تصل اللهجة العامية باللغة الفصحى، ونسف التضاد بين اللهجة واللغة، إذ كان يجد باستمرار كلمات اللهجة فى معاجم الفصحى، وكان يرى فى المعاجم أصول اللهجة.. هذا الممر بين اللهجة واللغة لم يعثر عليه أحد فى تاريخ الأدب المصرى سوى يحيى حقى.. وانظر إليه يكتب: «امرأة بوّاسة»، وبوّاسة صحيحة عامية وفصحى، وانظر إليه يكتب: «حفلة رقص ملعلعة»، وكلها سليم فصحى وعامية، ويستخدم عن معرفة كلمة «هيصة» وكلمة «ألعوبان»، ويفتح الممر بين اللهجة واللغة بعمق واقتدار، وقد كان ذلك أحد هموم الأديب العظيم الذى قال عن حق: «لو عصرتم دمى بمعصرة القصب، ستجدونى مصريًا حتى آخر قطرة»! نعم.. كنت مصريًا، وأى مصرى؟ عظيم فى الأدب والفن والفكر واللغة ولا توفيك كل الكلمات حقك.