رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر وتهديدات دول الأطراف «أثيوبيا»


6. «سد النهضة».. عدائيات التصميم ومحاولات الحصار
المقالات الثلاثة الأولى من سلسلة «مصر وتهديدات دول الأطراف» تعلقت بتركيا.. رحلة الأتراك من الاستبس للأناضول، وأطماعهم الإقليمية.. عقدتهم التاريخية من الجيش المصرى.. والجيش المصرى ومعارك تأديب الجيش التركى.. انتقلنا من المقال الرابع الى مخاطر أثيوبيا على أمن مصر القومى.. ثم انصب المقال الخامس على كيفية إدارة مصر لأزمة «سد النهضة» عبر مراحل تطورها؟!.. لكن تمحور كل مظاهر العداء الأثيوبى لمصر حول «السد» موضوع بالغ الأهمية، يفرض تناوله بمزيد من التفاصيل.
بمجرد سقوط نظام مبارك عام ٢٠١١، تم وضع حجر أساس «السد».. الشركة العسكرية الإثيوبية كُلِفَت بالتنفيذ، بالشراكة مع شركة «Spire Corp» الأمريكية، التى وفرت التوربينات والمولدات والمعدات الكهربائية.. نائب رئيس المركز الإقليمى لعلوم الفضاء بالأمم المتحدة، كشف الدور الذى لعبته الولايات المتحدة فى التشويش على صور السد التى يلتقطها القمر الصناعى الأمريكى «land sat 8»، حتى لا تتابع مصر تفاصيل مراحل البناء.
تصميم السد غلبت عليه روح العداء، وانعكس ذلك على مواصفاته الفنية، السد الخرسانى يحتجز 14 مليار متر مكعب، فتحاته لا تقع أسفله كباقى سدود العالم، بل أعلاه، عند ارتفاع من 142 إلى 145متر، مما يعنى أنها تأخذ من مياه السطح كفتحات المفيض!!، وهذا فى حد ذاته تصميم عدائى لأنه يستهدف حجب المياه عن دول المصب، ومنع تلبية احتياجاتهم فى سنوات الجفاف الممتدة، رغم مايسببه ذلك من أضرار للسد نفسه، نتيجة سرعة تراكم الطمى، مايقلل من عمره الإفتراضى.. وهناك سدًا آخر ركاميًا، ارتفاعه 50 متراً، وطوله 5000 متر، وهذا تصميم أكثر عدائية، لأن سدود التحويط فى العالم لا تزيد عادة عن 300 متر.. يمتد فوق الحدود المنخفضة إلى خزان البحيرة، للتحويط على الارتفاع الزائد «85 متراً».. والأكثر خطورة، ان عمليات التوسيع الضخمة لسعة «السد» لم تصاحبها مراجعة للأساسات، ما يفسر أن معدل أمانه 1.5 ريختر، مقارنة بـ8 للسد العالى.. خبير الإنشاءات الألمانى بتقرير اللجنة الثلاثية الدولية أكد أن الرسومات الإنشائية للسد معيبة وناقصة، ولا ترقى لبناء عمارة سكنية فى «هامبورج»، والخبراء الأمريكان رجّحوا انهياره خلال 10 سنوات.
اللجنة الدولية لمراجعة دراسات السد وتعديل مواصفاته، تشكلت فى مايو 2012، كل ما قدمته لها إثيوبيا دراسات تمهيدية، غير متكاملة، لم تتناول الآثار السلبية على دولتى المصب، وتأثيرات انهياره، وخلت من إشارة إلى السد الركامى الذى رفع الطاقة التخزينية للسد، وضمانات أمانه، لأن قرار بنائه اتُّخذ بعد ثورة ٣٠ يونيو وسقوط الإخوان، فى الاجتماع الذى نظمته المخابرات الأمريكية «أغسطس 2013»، لعدد من أجهزة المخابرات الغربية، بقاعدة دارمشتات بألمانيا لمواجهة ما أسمّوه بـ«الانقلاب فى مصر»، والذى اتخذت خلاله مجموعة قرارات عقابية، من بينها بناء سد التحويط الركامى بطول ٥٠٠٠ متر، ما رفع سعت السد الإجمالية الى ٧٤ مليار متر مكعب.
تجربة إثيوبيا فى إنشاء السدود تعكس فشل سياساتها المائية، وضعف خبراتها، وانعكاساتها المدمرة على دول الجوار.. منظمة الأنهار الدولية المعنية بحماية الأنهار العابرة للحدود، انتقدت تدنى مستوى الدراسات الإثيوبية المتعلقة بسد النهضة، واعتبرتها «لا تليق بسد بمثل هذا الحجم، مما يُنذر بكارثة»، خاصة وان السوابق كارثية.. إثيوبيا افتتحت سد «جيبى ٣» المقام على نهر أومو فى ديسمبر ٢٠١٦، ملء الخزان منع تدفق المياه لبحيرة «توركانا»، ما هبط بمنسوبها بحدة، فتوقف الإنتاج الزراعى والصيد، وانتشرت المجاعة شمال كينيا، وأصبح نصف مليون من السكان مهددين بالفناء.
القضية تشكل بالفعل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، وتهدد بانعكاسات خطيرة قد تتشابه مع آثار مشروع جنوب شرق الأناضول، وسد أتاتورك الكبير بملحقاته، الذى جفَّف نهرى الفرات ودجلة جزئيًا، وحرم سوريا والعراق من معظم مواردهما المائية، متابعة مصر للإنشاءات على نهر النيل ضرورة حتمية، تجنبًا لمفاجآت، قد لا تدع مجالًا لتفاوض، أو وساطة، أو مجاملات، لأنها تشكل خصمًا مباشرًا من أمن مصر القومى.. مصر ياسادة «هبة النيل» فلا تتصوروا ان محاولة إغراقنا فى التفاصيل والدوائر الجهنمية للأزمات يمكن أن تستغرقنا لما بعد خطوطنا الحمراء.
*
منذ تدشين «سد النهضة» عام 2011، قامت اثيوبيا بتوظيفه كمحور لتعبئة الإقليم ضد دور مصر فى دول حوض النيل وشرق أفريقيا.. حرضت دول الحوض ضد القاهرة، وحشدتهم لتأييد اتفاقية عنتيبى الإطارية، لكن مصر رفضت التوقيع عليها، لتمسُّكها بحصتها المحدّدة بالاتفاقيات الدولية (1902 و1929 و1959)، وبمبدأ ضرورة إخطارها مسبقاً بالمشروعات المزمع إقامتها بدول أعالى النيل، حتى لاتؤثر على حصتها من المياه.
«أبى أحمد» تبنى سياسة «صفر مشاكل» فى علاقاته بحلفاء مصر فى شرق إفريقيا، محاولًا عزل القاهرة عنهم، وحرمانها من توظيفهم كأداة ضغط ضدها.. شارك أوغندا، دولة المنبع الآخرى للنيل، فى الوساطة بين الرئيس سلفاكير، وقائد المتمردين رياك مشار، لإنهاء النزاع بجنوب السودان، حاضنة النيل الأزرق، الذى تعول مصر على تنمية حصتها منه، واستضاف توقيع اتفاق السلام بأديس أبابا.. ووقع مع إريتريا، الجارة اللدود، اتفاق جدة للسلام فى سبتمبر ٢٠١٨، لينهى أطول نزاع عرفته القارة الإفريقية.. ديناميكية الدبلوماسية الإثيوبية، واستهداف مراكز اهتمام المصالح المصرية داخل محيطها لتحييدها يلفتان النظر، لأنه أبعد ما يكون عن سياسة المماطلة التى إتبعتها فى مفاوضات السد.
بانتهاء الحروب، وصنع السلام مع إريتريا، جارته اللدود، أصبح «أبى أحمد» يبحث عن تحدٍ خارجى يوحد خلفه أمة متشرذمة عرقيًا، ولم يجد هناك بديلًا أفضل من مواجهة مصر، بكل ما تحمله من رمزية عداء فى التاريخ الوطنى الإثيوبى، وأن تدور المواجهة حول «سد النهضة»، محور التعبئة الوطنية خلال حكم ديسالين، على إمتداد السنوات الماضية.. تطوير مصر للتعاون الإستراتيجى مع أريتريا، والمناورة المشتركة التى قامت بها القوات الجوية المصرية والقوات الخاصة مع نظيراتها السودانية منتصف نوفمبر الماضى، وزيارة الرئيس الى دولة جنوب السودان نهاية نوفمبر.. كلها إجراءات تعكس حرص السياسة الخارجية المصرية على كبح جماح السياسات العدائية للحكومة الأثيوبية، من خلال مجموعة من الإشارات المنذرة، بأن العداء لن يولد سوى مزيدًا من العداء، وانه لاداعى للدفع فى إتجاه المواجهة، خاصة وأنهم ليسوا الطرف الأقوى.
أثيوبيا فتحت الأبواب أيضًا لتوظيف السد فى مكايدة مصر.. قطر سبق ان قدمت الدعم السخى لإريتريا وللجماعات الجهادية الصومالية، ما أدى إلى القطيعة مع إثيوبيا حتى 2012، لكنها خروجًا عن السياق، وقّع وزير خارجيتها فى اواخر 2016 بأديس أبابا 11 اتفاقية تغطى مختلف مجالات التعاون، أعقبها دخولها كممول رئيسى للسد بعد انسحاب الصين والبنك الدولى.. تركيا أيضًا تستثمر فى أفريقيا 6 مليارات دولار، منها 3 فى إثيوبيا، التى تعتبر رابع أكبر شريك تجارى لأنقرة، كما تقيم قاعدة عسكرية بالصومال، ملحقاً بها كلية عسكرية لتدريب الضباط الصوماليين، ما يضع أقدامها بقوة فى «خليج عدن» الاستراتيجى، والملعب الخلفى لأمن مصر.. تركيا قدمت لأثيوبيا وعدًا «كاذبًا» بتوفير شبكة دفاع جوى خاصة بتأمين السد، لإغرائها بتوقيع اتفاق تعاون عسكرى، ما دفع البرلمان الإثيوبى الى المسارعة بالتصديق عليه بعد أسبوع واحد من توقيع «ديسالين» على «اتفاق المبادئ» بالخرطوم مع مصر والسودان فى مارس ٢٠١٥!!.. إثيوبيا رحبت بكل من لديه خلاف مع مصر.
المسئولون الإثيوبيون جاهروا بعنتريات لاعلاقة لها باحترام القواعد القانونية، ولا بالالتزامات الدولية: وزير الخارجية الأثيوبي صرح فى اكتوبر 2019 «أن مصر أضعف من أن تدخل في حرب مع أثيوبيا، وأن صراعاتها الداخلية، وفقرها الاقتصادي، والإرهاب في سيناء، هي أولويات حروبها»!!.. وبعد رفض أديس أبابا التوقيع على اتفاق واشنطن أكد أن «الأرض أرضنا.. والمياه مياهنا.. والمال الذى يبنى السد مالنا، ولا توجد قوة على وجه الأرض تمنعنا من إستكمال بناءه».. استفزاز بالغ الحماقة، يتجاهل القواعد المنظمة لأوضاع السدود على الأنهار عابرة الحدود.
فى مواجهة كل هذا القدر من الصلف والغرور وروح العداء، كيف تستعد مصر لمواجهة الأخطار المترتبة على بناء السد وتشغيله، والأهم والأخطر إحتمالات إنهياره.. موعدنا الجمعة القادمة انشاء الله.