رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الذكورة السامة «٢»



اصمت..
توقف عن البكاء..
الأولاد الكبار لا يبكون..
تحمل..
بهذه العبارات الضاغطة، يبدأ وعى الصبى فى التكون، واضعًا إطارًا لصورته الذهنية عن نفسه.. ومع الوقت وبمزيد من الضغط وبكتمان الأسرار، وتصديق شعار الأولاد الكبار لا يبكون، والعجز عن التعبير عن أى مشاعر بثقة سوى شعور الغضب.. بتمجيد القوة، والهيبة، والسلطة، وأن تكون فوق أى وكل شىء.. يتغذى مرض الذكورة وينمو وينتشر.. وتصبح القوة هى فقط قدرتك على السيطرة على المحيطين، ولا سيطرة دون عنف، دون قمع الآخرين، دون التعدى على حقهم فى حيزهم الشخصى، حقهم فى الوجود.
وتصبح القوة هى وقود الذكورة السامة، حيث التعدى على حقوق الآخرين، والتوسع المستمر فى الحقوق الشخصية على حساب حقوق الآخرين، ويزدهر الفكر الاستعمارى بكل مستوياته وتجلياته، ولا يقتصر الاستعمار والاستحواذ على فضاء المكان والموارد، لكن يمتد لفضاء الحقوق والروح والحريات.
يصبح حقًا مسلمًا بديهيًا أن يمد الذكر حدوده وأن يوسع دائرته، يحق له إذا رأى امرأة تسير فى الشارع أن يتفحصها، وأن يمعن النظر فى خلفيتها.. يحق له أن يعدد علاقاته، وإذا سمح المجتمع بأن يشرعن هذا التعدد «امرأة واحدة لا تكفى» دون أن يدق فى الخلفية ناقوس: وهل أنت تكفى؟
لا يتصرف الذكور المسمومة بشكل فردى، كإنسان أو كائن مسئول عن نفسه، بل يتصرفون بفكر القطيع.
ينشأ الصبيان فى مختلف أنحاء العالم ولديهم مجموعة من المفاهيم المحفوظة فى صندوق الرجولة: إن الرجال ينبغى أن يكونوا قساة، وأقوياء، ويجب أن يكونوا شجعان ومسيطرين، دون ألم، أو مشاعر، باستثناء الغضب، وبالطبع دون خوف، وأن الرجال مسئولون، ما يعنى أن النساء لسن مسئولات، وأن الرجال يقودون، وأن المرأة مجرد تابعة وتفعل ما نقوله نحن فقط، وأن الرجال أعلى والنساء أدنى، وأن الرجال أقوياء، والنساء ضعيفات، وأن النساء أقل قيمة، وأنهن ضمن ملكية الرجال، وسلع، وتحديدًا سلع جنسية.. هذه هى حقيقة التنشئة الاجتماعية للرجال.
كل ما يريده طفل «غلام» أن يكون مقبولًا ومحبوبًا من الأولاد الآخرين، وهذا يعنى أن يكتسب نظرة اشمئزاز وازدراء لكل ما هو أنثوى، فالأنوثة عكس الرجولة، وكى يزدرى كل ما هو أنثوى من عطف وشفقة واحتواء.. يتعلم الذكور أن المحبة تضعه فى طريق الأذى، لذا عندما يقع فى الحب فهو لا يسعى لإقامة علاقة روحية أو جسدية متكافئة أو متناغمة، هو يريد السيطرة على موضوع حبه، التحكم فيه، نفيه، حجبه عن الذكور الآخرين الذين يعلم جيدًا أنهم يرون نفس ما يرى.
يتعلم الذكور اللامبالاة، فالاكتراث بالآخرين يجعلهم ضعفاء، وبالتالى عدم الاكتراث يساوى القوة.. أعظم طريقة لتخفى شعورك المهزوز بذاتك هو الاختباء خلف جوّ زائف من الاحترام.. طريق طويل سلكه الذكور من إيذاء الآخرين جسمانيًا أو فكريًا أو عاطفيًا، جعل معدلات عنف الرجال على النساء تصل لحد الوباء، ويشمل العنف كل الأشكال «اللفظى والجسدى والمعنوى».
هكذا يتربى ملايين الأولاد فى العالم، وبالطبع بقيود وضغوط وقولبة أكثر صرامة فى عالمينا العربى والإسلامى.. يتربى الذكور على التقليل من شأن المرأة، اذا أردت أن تدمر ولدًا، فقل إنه يتصرف كالبنت، إذا أرت أن يقتلك ذكر، قل إنه يتصرف كالنساء، ولكن وعلى النقيض لن ينتقص من البنت أن يتم تشبيهها بالأولاد أو أنها بـ١٠٠ راجل.
يعانى الذكور من هاجس مسيطر، يتحول إلى مرض نفسى وروحى، وهو أنهم ليسوا ذكورًا بما يكفى، فيميلون دومًا لاختبار ذكوريتهم وتحدى بعضهم البعض فيمن يكون أقسى، أشجع، أقوى؟.. من يمد سلطانه، هيبته أكثر؟.. فتشتعل دومًا المعارك والحروب ولا تتوقف، لأن الذكور جعلوا أهميتهم فيما هو خارجهم.. فى اتساع رقعة نفوذهم، وما خارج الإنسان لا يمكن الوثوق به، لأنه عرضة لتغيرات وسنن التطور، إضافة إلى تغير الظروف والعوامل الاجتماعية. والسياسية و..
مساكين الرجال.. يدفعون كلفة باهظة لذكورة سامة لا تعود عليهم سوى بالتجمد أو الخراب الروحى، رجال القبيلة فى حالة استنفار دائم لحماية ما استلبوه عبر سنوات من القوة والقهر.
مساكين الرجال.. لا راحة لأجسادهم المنهكة من التمدد والتوسع، أو لأرواحهم المثقلة والمقيدة بصندوق الرجولة إلا فى القبر.
مَن يستطيع التحرر من الدائرة الجهنمية، مَن يستطيع نزع الصليب عن كاهله؟ من يجد الشجاعة كى يواجه إنسانيته المغدورة؟.. وللحديث بقية.