رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اسمى غالبًا مصطفى

عبدالوهاب داود
عبدالوهاب داود



سألنى: لم تقل لى، ما اسمك؟
فلم أرد، ولم يلتفت لى، ويبدو أنه لم يكن يهتم لإجابتى أيًا كانت.. فقد عاد لكى يلقى برأسه إلى الخلف قبل أن يذهب فى نوبة كلام جديدة.
قال: ولكن، ما الأسماء؟ ما أهميتها؟ أقول لك، عندما ولدت، أسمانى أبى «حامد».. كنت صبيه الأول بعد أربع بنات، وكان يريد لى أن أظلّ حيًا، وألا يصيبنى مكروه، مرض، أو عين حاسدة.. هذا الأحمق، كان قد مَلَّ من خِلفة البنات، ويظن أنه بهذا الاسم يقربنى من الله، أو يغريه بالرضا عنى ومباركتى، ورعايتى صحيًا، وعقليًا..
هل تصدق أنه هو أيضًا أسماه أبوه بنفس الطريقة، ولنفس السبب؟! وأبو أبيه أيضًا؟! هذه عائلة لها باع طويل فى «الشحاتة» والتسول، وكله بلا طائل أو مردود.
عندما بدأتُ رحلة الكلام والحركة، كانت أمى تتفنن فى تصفيف شعرى، ونظافة ثيابى، وكنت كلما احتضنتها، وقبّلت فمها أو خدها، تبتسم بخبث، وكأنها تتذكر شيئًا لا أعرفه، أو لا يعرفه أبى إن شئت الدقة، وتقول لى: قبّلنى مرة أخرى يا حسن.
يبتسم وكأنه يعود إلى نعيم تلك اللحظات التى يبدو أنها لم تفارقه، ثم يتحول صوته إلى الهمس وهو يقول: كانت تشير إلى نقاط محددة بوجهها وصدرها، وهى تطلب منى أن أقبّلها «هنا»، «وهنا أيضًا».. وكانت ابتسامتها تزداد جمالًا ويزدهر خداها، وهى ترفعنى إلى صدرها وتتمتم: أحبك يا حسن.
حسن الذى عرفت فيما بعد أنه ابن عمها الوسيم، الذى كان يكبرها بأعوام خمسة، وكان كل بنات القرية يتمنينه، لكنه قال لأبيها إنه هو زوجها عندما تكبر، قال: لا أريد سوى توحة، وقالت: لا أريد إلا حسن.. لكنها كبرت، ولم يكن هناك حسن.. مات فى حرب فلسطين، وجاءوا لها بزوج من الأحذية السميكة، قالوا إنه ما تبقى منه فى وحلة الطين التى كان يختبئ بها فى أرض غزة.
ينظر ناحيتى مستطردًا فى ذكرياته: كان اسمها فتحية، لكننى لم أنادِها بغير «توحة»، طوال حياتها وبعد رحيلها.. كانت امرأة جميلة تحب الجمال، هادئة النفس، وكانت ابنة لتاجر ألبان جاء من «المنوفية»، يحتل دكانه ناصية الشارع الذى تتوسطه حارتنا، عند تقاطعه مع شارع «طومان باى»، لا طبيخ يعلو على طبخها، ولا زينة تضاهى زينتها، أو طيب رائحتها، وكانت ساعات العصرية هى أجمل أوقات يومها، تحبها وتستمتع بها، فقد كانت تمضيها كلها أو معظمها وهى تمشط شعر إخوتى البنات، وكانت فى كل فترة تجرب فيهن ما يخطر على بالها من تسريحات جديدة، ولو كانت غريبة، على أنها لم تكن تخرج عن تعديلات بسيطة لمنبت «الفرق»، أو ميل «القُصّة»، مرة تجعل منبت الفرق إلى أقصى اليمين أو اليسار، وتزيد من ميل «القُصّة» فوق الجبهة لتغطيها كلها، ومرة تجعلها تنبت مما قبل المنتصف بقليل، وتميل بها قليلًا، أو ترفعها إلى الخلف، وكن يستسلمن لها، بل ويتسابقن على من تفوز منهن بالتسريحة الجديدة، تفرح بها، وتخرج سريعًا بمجرد انتهائها، لتختال بها بين بنات حارتنا، تعرضها على بنات الجيران قبل الأخريات، وكأنها فازت بالجائزة الكبرى فى مسابقة للجمال.
بسببها، لم يكن شىء فى بيتنا بلا قيمة، أو لا يمكن تدويره، وإعادة استخدامه، لا يخلو سطحها من الدواجن والطيور، ولا تخلو مائدتها مما لذ وطاب، فى موعده أو فى غير موعده، وعلى فقرها كان الستر صاحبها وحاميها، فلم تغلق بابها أمام جارة أو عابر سبيل، ولم ترد سائلًا أو محتاجًا، كلٌ على قدر حاجته، من جاءتها تطلب الزينة عادت بوجه القمر، ومن طلبت العطر تعطرت، من كان الجوع رسوله بات ليلته وهو شبعان، لذا عندما جاءها ملك الموت بكتها حتى عتبات البيوت.
جاهدتُ قدر استطاعتى فى إنكار «حامد»، والاحتفاظ بـ«حسن»، حتى جاءت الإجازة الصيفية، وذهبت إلى العمل فى ورشة «الحاج عبدالعزيز» لإصلاح السيارات، تلك الورشة التى كانت تحتل ناصية شارعنا، وكان «الحاج» يملؤها حركةً، وصراخًا.
هو لا يتكلم مثلنا أو مثل البنى آدمين، أبدًا، هناك دائمًا ما يجعله غاضب الوجه، مهزوم الروح.. ربما كان ذلك بسبب ملابسه المتسخة، التى لا أعرف لماذا يصر على استخدامها فى العمل، وكأن اتساخ الملابس دليل على الإتقان، أو وكأنه لا يؤثر على الأرواح، فتتلطخ بكل ما ترتديه من أوساخ، أو على الأقل تستعيدها، وتظل ماثلة قدامها طوال ساعات النهار.
هكذا كانت روحه المتسخة، كملابسه، تصرخ فى كل عابر عند باب الورشة، فتطرد الجميع، ولا يجيئه إلا مضطر أو غريب.. وكان ينادينى «يا غبى»، فصار اسمى «يا غبى».. أربعة أشهر إلا قليلًا، التصق بى خلالها ذلك الاسم، لكن إصرار أمى على نظافة ملابسى حمى روحى من الأوساخ العالقة بزوايا ورشة «عبدالعزيز»، ووقف أمام رغبة أبى فى إعادتى إليها خلال الإجازة التالية، فعاد لى «حسن» مرة أخرى.
الأهم من ذلك كله، ما حدث عندما بدأت السنة السادسة لى فى المدرسة، حيث كان لى أن أغادر أسمائى جميعًا إلى غير رجعة، بلا تفكير وبلا عقل.. كانت البنت التى تخطف العين والقلب والروح لا تتوقف عن ترديد تلك الأغنية اللعينة «أنا بحبك يا مصطفى»، وكان لا مفر لى إلا أن أكون ذلك المجهول الذى تغنى له، فقررت أن يكون اسمى «مصطفى»، وقررت ألا يكون لى اسم سواه، حتى تحبنى تلك الفأرة الصغيرة.. ومن يومها وهذا الاسم لا يغادرنى، ولا يعود لى أى من أسمائى إلا لكى يغادر سريعًا كما عاد.