رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أم هاشم

حسين عبد الرحيم
حسين عبد الرحيم


سرتُ مترنحًا..
أقصد بيتنا فى حارة سعيد، أشعر بإعياء شديد، الشارع شبه صامت والخرس يكمم الأفواه، بوجه أصفر تنظرنى كنوز بريبة وألم..
تائهٌ أنا، شبه ميت، مكلوم أقصد نافذتى وأمى تصرخ، تنادينى:
- أين أنت؟
لا أنطق.
أهمهم بكلمات غير مفهومة، أبكى وتسقط دموعى، ميكروفون مسجد البازات يهمهم وأذان العصر بعد ثوانٍ.
«أين أم هاشم؟»
أسأل نفسى والجدران، النافذة المفتوحة على أبواب الله والسماء الحبلى بالمطر والغمام وزملائى فى المدرسة ينادوننى من خلف النافذة، والصديقة تدق مدق الفول المجروش، تتحسس جبينى وصدغى ووجنتى، أسأل نفسى: هل سمعت بما جرى، أم حسبتنى وقد مرضت فجأة وتورمت عيناى من أثر البكاء واصطبغت ملامحى تتلون بالصفار والسواد والاحمرار يحوط عينىّ وسترة بيجامتى الكستور ممزقة؟، أرفع قدمىّ متخطيًا العتبة الحديدية بالمسند الصلب، أرمى بجسدى فوق سرير غريب.
لا رائحة لجسدى الغارق فى العرق، أحاول النوم مغلقًا عينىّ المتورمتين، صراخ فى الخارج، أدخنة تتصاعد ببطء من منزل فهمى المجذوب، يغدو ويروح ويجىء ويكرر نفس التفاصيل، ذهابًا لمسجد البازات فعودة، فوقفة قبل منزل الكواء فى عطفة حردان، عاد منتصب الشعر، عينان بارقتان، حمراوان، يبكى هو الآخر.
رأيته من نافذتى يقف على ناصية حارة سعيد، ينظر بيتنا وشرفتنا فى توجس.
أسأل عن أم هاشم، عن نفسى:
- أين هى، أين كنت، ماذا حدث؟
ولماذا كل هذه الدموع فى عيون البشر؟
كم الساعة الآن..
هل عادت أم هاشم لبيتها؟!
صوت خوار البقر والجاموس يتعالى فى صحن الدار وأنا خائف وخلفى أصحابى زملاء الدراسة، لا حديث، لا كلام.
بقايا حجارة فى الكفوف، ما بين النوم واليقظة والنهنهات خائف، أقول فى نفسى ولنفسى: لماذا لم تصر أمى على سؤالى؟، لماذا تركتنى وحيدًا؟، ولماذا لم تذهب إلى هناك خلف من ذهبوا وذهبن لمسجد البازات عندما زادت أصوات الصراخ فى الممرات وخلف الميضة وداخل حمام الحريم والرجال؟، الشوارع الخالية إلا من نحيب أهالى وسكان جاءوا من بعيد، من مزلقان الوردى، حول عيادة دكتور حجام القادم من القاهرة للكشف على الفقراء أطفال مرضى الرمد، الشتاء على الأبواب والخريف يلملم أوراقه بأشجار باقية تكنسها تيارات هواء تندفع من قبل شياطين الأرض وتحتها، أنتفض وقد انتهى المؤذن من أذان العصر لأقفز من سريرى، أذهب خلف الميضة، أمشى، أركض، أصرخ، أنادى أم هاشم فلا مجيب إلا هسهسات الشجر والخوار وصمت أمى وبكاء العم فهمى.
أراها قبل زحف المغارب وقد لملمت ملابسها فى شبه خرق متدلية على لحم كتفيها العاريتين، وجلبابها المشلوح، وبقع دموية متفرقة على الجسد الأبيض الملائكى.
تترجل أم هاشم فى إعياء، ما بين موت وحياة، خجل وطهر، نقاء ودنس تهش بقاياه، تطارد ذبابًا أزرق يحوم حول فمها وعينيها.
انسلت تلازم الجدار، تقصد الدار، تستر نصفها العلوى بقماط أسود وإيشارب مفكوك.
لا أرى، لا أعى، عينى منتفخة وهى تحدق فى بلاهة وخرس وكتمان ولوم، كائنٌ آخر غير من عرفت وعشقت وأحببت وارتحت وآمنت، لرائحتها تلك الونسة التى تظللنا وقت رقدتها، قعدتها بجانب أم حامد ننظر معًا إلى القمر.
أفل القمر وقت الغروب، أم هاشم تتوارى داخل الدار وأنا الخائف المتردد ما بين الصعود لسريرى والارتماء فى حضن أمى.
أسأل نفسى:
- أين أبى؟
الصديقة لا تسمعنى.
وشيش الوابور يعلو وسط صحن البيت، ما بين بقايا النور لنهار غارب وليل عتمة، الصراخ يصل عنان السماء، يسد الآفاق، الجيران يصرخون وكنوز تصرخ وتلطم خديها وهى ترى أم هاشم.
أشعلت النار فى جسدها الطويل، سكبت غاز الوابور فوق رأسها حتى فرغ ورمته بجانب الجاموس ليتحول الجسد الفارع لجزوع من لهيب، جرت تفارق البيت، فى حارة سعيد هرول السكان فى صراخ جنونى، تحتضن كل من يقابلها، صلاح الوزة ببطانيته السوداء، فهمى الجمال وأم حامد، رضا الليثى ومحمد الضيفى وهدى وفوزية الضيفى، سامية البنهاوى..
جرت أم هاشم.
فى ذهاب بلا عودة، مذعورٌ أنا، جسدى ينتفض، أنكمش، أغوص فى درب سعيد، أحاول الهروب من تلك الشجرة السامقة التى اشتعلت فصارت ترمى بألوان من لهيب أزرق، كتل اللحم تتساقط من جسد ملاكى المحترق.
أجرى وهى تلاحقنى، تتبعنى، تطاردنى فيزيد فزعى ودموعى تهوى مالحة، أتلفت، أدقق النظر، يُقبض على جسدها وتطوى كطى السجل للكتب، فى هواء حارة سعيد، قبل الغروب وطيف آخر سراج للنور.
أنكفئ ثم أقف مشدوهًا، أتحسس الحجارة، نقذفها بالحجارة وخلفى حمو وماهر وحليمو وبطوط ابن زكية وسعد العجرودى.
نرمى بالطوب صوب جسدٍ يتلاشى، تتعقبنى وقد انكفأت أرضًا ما بين حصى وحجارة مكومة أمام مدخل بيت أم حامد، تحاول احتضان جسدى الضئيل وقد أمسكت بسترة بيجامتى.
فى أول الليل فررت منها، بخوفى نفذت، من جدار مهدم خائر القوى، بلا عزم، ببقايا حياة وموت، الصراخ يدوى فى الآفاق، يصعد لطبقات السماء العلى، أرى أمى وقد أمسكت بطست من الماء البارد، ترميه فوق الجسد المشتعل، يفر ملاكى المشتعل أمام بيتنا.
بكت أمى.
سمعتها فى طريق بلا نور محاولًا الركض لآخر نفس حتى منتهى الحارة، قرب الجسر المؤدى لمرسى مراكب الويشى، عندما ارتميت فوق أنقاض الهدم.
دنت منى بعينين بارقتين كنور الله فى أرضه، حدّقت تنظر فى ملامحى، تحتضننى، تدعونى لاحتضانها لعلها تفيق، تنطفئ، تحيا.
تموت أم هاشم فى بطء وهى ترمى بنظرات ملامة، من بؤبؤ عينها اليسرى المحجوب، تحت جلد تهاوى يفارق الرأس والوجه، تبقى أصواتى فى الطلل، الصراخ والعجز والخوف والانكماش والموت، الموت نفسه، ما قبل الانسحاق وبعده، انزواء جسدى الضئيل فى روح تلاشت وحواس تلملم بقايا قوة نافرة تخرج من داخلى، تندفع بطاقة فولاذية لا أعلم مصدرها.
تكفكف دمعها وبقايا لحم الوجه الظاهر قبل أن تطمس معالمه النار، تحتضن جسدى الضئيل.
بعجزى، أطفئ لهيب الجسد البهى الفارع.
ميت..
شبه حى، لا أرى إلا سراجًا من نور يأتى من الله، منيرًا كاسحًا نافذًا يرمى ببطانية صوفية غليظة يتلقفها فهمى الجمال، ليلف جسد أم هاشم الذى سقط على مقربة من قدمى، لامست أصابعى الصغيرة ذراعها اليمنى، عارية كانت وعظامى باردة، همدت كبقايا حطام لبونسيانة مزهرة، تلاشت، تكومت فى نثار، خرق وبقايا لهيب، بقع لحمية، سوداء وحمراء وبيضاء، شفيفة، تتساقط منثورة، فى حارة سعيد.
بكاها كل أطفال طلخا، حارة سعيد والجسر الواصل للمنصورة.
ساعة ونصف، أنبح أنا، وخلفى الأطفال، وسط الظلام عندما أتى شقيقها أحمد الكسيح من سفره، رافعًا عكازيه، فى عتمة شوارع طلخا وحارة سعيد، مشلوح الجلباب بعينين باكيتين ترميان بالدمع فوق جسد شقيقته.