رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رواية «سبيل الغارق» لريم بسيوني.. سردية ملحمية وشخصيات أسطورية

ريم بسيوني
ريم بسيوني

كثيرة هي قصص وحكايات النساء المصريات من رائدات العمل العام٬ فنجد منيرة ثابت أول صحفية نقابية مصرية٬ وأول رئيسة تحرير لجريدة سياسية. وبالطبع هدى شعراوي وواقعتها الشهيرة بخلع الحجاب٬ ومفيدة عبدالرحمن أول محامية مصرية تمارس مهنة المحاماة أمام المحاكم وليس فقط بالحصول على الشهادة. كما نجد درية شفيق صاحبة الفضل في حصول المرأة على حق الانتخاب والترشح في دستور مصر عام 1956. وغيرهن الكثيرات ممن كن حجر الأساس فيما نتمتع به نحن النساء اليوم.

هذه النماذج الشهيرة حفظها لنا التاريخ٬ وسجل لهن قصب السبق في كل هذه المجالات٬ إلا أن التاريخ لم يتطرق إلى من شاركن في هذه الإنجازات٬ فلم يحكي لنا مثلا عن أول فتاة مصرية التحقت بمدرسة السنية والصعوبات التي واجهتها والمعوقات التي تحدتها٬ ما المشاعر التي انتابتها في هذه المغامرة التي كانت تعتبر سبة وفضيحة في ذلك الوقت. فعندما أنشأت جشم آفت هانم أفندي زوجة الخديوي إسماعيل٬ في يناير 1873 أول مدرسة مصرية حكومية لتعليم البنات، كانت مغامرة كبرى بكل المقاييس٬ ففي هذا الوقت كانت الأسر المصرية ترفض رفضا باتا تعليم البنات٬ فالبنت للبيت والزواج فقط٬ لا يحق لها أن تتعلم حتى لا تفهم فتجادل وتعرف فيعلو صوتها فوق صوت الرجل بل وتناطحه أيضا. لذا كان تعليم البنات قاصرا في هذه الفترة على الجاليات الأجنبية وفتيات الأسرة العلوية المالكة وحاشيتها. هذا لا ينفي أن كبريات العائلات المصرية كانت توفر التعليم لبناتها لكن في المنزل دون أن يخرجن إلى المدارس.

وفي روايتها الأحدث "سبيل الغارق" الصادرة عن دار نهضة مصر تلتقط الكاتبة ريم بسيوني٬ بداية الخيط من خلال "جليلة أحمد ثابت" وتغزل لنا حكايتها عن كيف التحقت بالمدرسة بطلب من جشم آفت هانم شخصيا٬ وهي الفضيحة التي أزعجت الأم وثار من أجلها الأب٬ حتى أنهما شددا عليها بغلق أذنيها عما تسمعه في المدرسة ولا تلتفت إليه. لكنها وفي لحظة ما تتخلى عن حذرها وتحفظها٬ ومن ثم تتغير حياتها للأبد٬ ففي المدرسة وعبر معلماتها دخلت جليلة عوالم وآفاق لم تسمع عنها من قبل لا هي ولا أمها ولا أيا من نساء العائلة. ومن هنا تخوض جليلة معركتها الكبرى لتكون نفسها لا كما يريد لها الآخرون أن تكونه.

جليلة بكل ما تحمله من تمرد وثورة وعناد قادوها للعديد من الهزائم٬ إلا أن المحصلة النهائية كانت متوهجة مشرقة٬ رمزا للصمود والتفرد حتى بمقاييس اليوم وليس فقط بظرفها التاريخي الزمني٬ فاختيارها الذي دافعت عنه طويلا وتحدت من أجله كل من حولها٬ بإصرارها على مواصلة التعلم في مدرسة لليتيمات والعاهرات٬ حتى أن الأطفال كانوا يرجمونها بالحجارة وينعتونها بالفاجرة الخارجة عن كل الأعراف.

ومن عنوان الرواية "سبيل الغارق" نطرح سؤال: هل السبيل هنا الطريق أم المكان المعد للشرب كصدقة جارية منتشرة في القاهرة منذ أزمان؟ ومن هو حسن العبد المملوك لــ أحمد بيه ثابت؟ وما علاقته بالشاطر حسن٬ وهل تغير مصير حسن عما نعرفه وعهدناه في الحكاية الشهيرة؟ وما علاقة الــ"الحسنين" بالبرتغاليين٬ وما الذي يربط بين الشاطر حسن٬ وحسن ابن تمرهان٬ بتاجر البندقية "فرانشيسكو تليدي"٬ وموظف البريد الإيطالي "ألفونسو" مدير مكتب التلغراف بالأسكندرية٬ قبيل دك المدافع الإنجليزية لحصونها وهدم بيوتها. كلها ألغاز وأسئلة تطرحها الرواية فتحيلك للتاريخ وكواليسه٬ للبحث والتنقيب بين سطوره عما كان وما صار٬ وكيف أن اليوم هو محصلة ونتيجة طبيعية للأمس البعيد.

تعيد الكاتبة ريم بسيوني في روايتها "سبيل الغرق" الاعتبار للمماليك وسلاطينهم٬ ترفع عن سيرتهم الافتراءات التي وصمهم بها التاريخ٬ فرغم العديد من المظالم التي لاقاها المصريون خلال فترات حكم المماليك٬ إلا أن عصرهم حمل أيضا الكثير من الانتصارات والخير للمصريين٬ خاصة السلطان الناصر قلاوون الغوري٬ وكيف حاول حتى آخر أنفاسه أن يضمن لمصر سيادتها للبحار وموقعها قلبا لتجارة العالم كله.

كما تشير من طرف خفي إلى أن الاحتلال البريطاني لمصر كان مخطط له منذ القرن الــ 16 وما ذريعة حماية الخديوي توفيق من عرابي وثورته إلا "برفان" يتخفون وراءه لإخضاع مصر وبالتالي موقعها وثرواتها بل وأسواقها٬ وهو ما انتهجته الأمبراطورية التي شاخت وغابت عنها اليوم الشمس. بل أن الهدف الرئيس هو التحكم في قناة السويس والسيطرة عليها ومن ثم السيطرة على العالم شرقه وغربه٬ وهو ما يدحض بالتالي تبريرات من وقفوا أمام قرار تأميم القناة 1956 بحجة أن بريطانيا كانت ستترك القناة من نفسها خلال خمس أو ست سنوات علي الأكثر.

تطرقت الكاتبة أيضا لزيف من تبنوا دعوات التحرر والحركات الفكرية٬ فحتى مع بزوغ التيار التنويري٬ وترحيبه بوجود النساء ومشاركتهن في الحياة العامة٬ إلا أن الأمر ــ كما هو الحال اليوم والآن ــ لم يخل من المدعين الكاذبين٬ الذين لا يرون في المرأة المتحررة التي تقتحم مجالات العامة٬ سوى عاهرة تمنح جسدها لأي كان لتثبت تحررها وإيمانها بمبادئ الحرية والتمدن٬ وهو ما جسدته من خلال شخصية "هاني ناصف" رئيس تحرير الجريدة التي كانت تكتب فيها جليلة باسم مستعار٬ فما أن قابلها حتي حاول التحرش بها بل واغتصابها وعندما قاومته اتهمها بالتخلف وحاول تهديدها لولا أن أنقذها حسن.

سبيل الغارق ملحمة سردية أسطورية٬ بأماكنها٬ وأزمنتها المتناسلة من بعضها البعض٬ من شخصياتها الملحمية النبيلة٬ بل وشخصيات أشبه بالآلهة في الأساطير الإغريقية القديمة٬ من أول الشيخ الزمزمي٬ مرورا بجليلة وحسن٬ ووالدتها خاصة "بثينة" والتي تحمل أفكار حداثية ربما تتفوق بها على قريناتها اليوم من الأمهات وعلاقتهن ببانتهن. وصولا إلى "تمرهان" الحنونة العطوفة الأصيلة.

في سبيل الغارق تستكمل ريم بسيوني مشروعها السردي٬ بخطي واثقة وكتابة بلغة رهيفة٬ تستعير قناع التاريخ للإحالة إلى أفكار كبرى٬ واستفزاز معرفي بالبحث والتنقيب عن حوادث وشخصيات الرواية٬ فهل "جليلة" صورة عن منيرة ثابت التي حاكمها الإحتلال الإنجليزي بتهمة مهاجمته؟ ومقارنة بالصعاب التي واجهتها جليلة لكن روحها توهجت أكثر وأكثر مع المحن لكنها عبرت في النهاية وتركت أثرا لم يمح حتى اليوم٬ وهو ما يحيل المتلقي لطرح السؤال عن سبب انتحار درية شفيق وهل كانت أضعف من جليلة؟ وكثير من التساؤلات التي تتركها الرواية في عقل متلقيها ووجدانه.