رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملك الأغنية الشعبية يروي «1»: كيف صنعتنى أمى وماتت قبل أن أعطيها من الخير الذى أعيش فيه؟

محمد رشدي
محمد رشدي

حياتى مع أمى شريط دائم لم يفارقنى، أتذكرها وهى تنتظرنى حين أكون ساهرًا خارج البيت.. بعد أن مرضتْ بالسكر كنت أبحث عن أى علاج يدلّنى عليه أحد، حتى الوصفات الشعبية مثل نوى المشمش ومرارة الذبيحة.. حزين أنها لم تعش لأقدّم لها من الخير الذى أنا فيه.. كنت فى زيارة لدسوق وكانت صحتها ليست على ما يرام، خرجتُ من البيت ساعات قليلة ولمّا عدت قالت لى: أنا تعبانة، خد بالك من إخواتك انشراح وصبرية وعفاف، وماتت.. هى سر إخلاصى لبيتى ورحمتى بكل امرأة قابلتها فى حياتى، عمرى ما فضحت أو شهّرت بامرأة.. دائمًا أكلم نفسى: هل قصّرت معها فى البحث عن أطباء لعلاجها؟ وانشغلت بسؤال: هل هى سمعتنى وأنا بأغنّى فى الإذاعة؟ وفى زيارة لأختى انشراح سألتها: أمى سمعتنى وأنا بأغنّى فى الإذاعة يا انشراح؟ أجابت: لأ يا أخويا.
أمى لم تكن تعرف معنى الفنان الذى أريده، تصورت أن الغناء هو إحياء الأفراح والموالد، يعنى الفنان يكون «مداح»، «صيّيت»، يتجول فى القرى ويسهر فى الموالد، مثل أحمد الشربتلى ومصطفى عابدين، وتوفيق حميدو الذى أعطانى فرصة حمل الكمنجة والمشى بها وراءه مقابل الغناء معه فى الموالد عشرة أيام متواصلة، ناولنى فى نهايتها أجرتى «خمسين قرشًا» بالتمام والكمال، أخذتها وطرت، قلت لنفسى: بقيت راجل يا محمد، ادخل على أمك وأنت فارد نفسك، خليها تتأكد إن عندها راجل معاه فلوس.
اصطنعتْ السعادة، قالت لى: إيه الشغلانة دى اللى جاى تفرّحنى بها، هتقولّى أنا بأغنّى، هو الغنا ده شغل، ده بتاع اللى مالهمش شغل.
كانت تتمنى لى حاجة تانية، عايزة تشوفنى أفندى، رجل تعتمد عليه، كانت معذورة فى نظرتها للفن والفنانين، لسه المجتمع كان تقليدى، الدنيا عندها هى دسوق والناس اللى فيها، والأفندية الموظفين همّا دليل الأبّهة والاستقرار، وبتأثير هذه النظرة كانت عايزة ولدها موظف أفندى.. كنت تجد ازدواجية غريبة فى المجتمع، الناس يحبون الفن، لكن لا يحبون أن يعمل أبناؤهم فيه.. كانت نظرة مرتبطة بسلوكيات الفنانين، يراها الناس خارجة عن التقاليد.. أنا بحثت فى الحكاية دى وجدت فنانين كبارًا واجهتهم مشكلة رفض الأهل، رغم أنها موهبة من عند الله، حصلت من أيام عبده الحامولى وأم كلثوم، وسيد درويش، وزكريا أحمد، ومحمد عبدالوهاب، وغيرهم.
كنا نعانى من الفقر كباقى المصريين.. كان اللى معاهم الثروة فى دسوق أعداد قليلة تعدّهم على أصابع اليد الواحدة.
انصرف أبى عنها بزواجه من أخرى، رغم أنها كانت رائعة الجمال، شعرها طويل، وجهها ملائكى، لكن يا خسارة لا الجمال الناطق ولا الشعر الطويل شفعا لها عنده، فتحدته بى: ابنى هو حياتى ومش هحتاجلك.. رفع أصابعه على شاربه قائلًا: وحياة ده هيكون صايع! خافت من كلامه، عبّت نفسها فى الملاية اللف، شدتنى من إيدى للمدرسة اللى فى دسوق.. قالت لى: اسمع يا محمد، هتتعلم يعنى هتتعلم.
أبويا ماكدّبش خبر، طلع على المدرسة، سحبنى منها: هتقعد من المدرسة، أنت هتبقى معايا فى الشغل.
رجّعتنى للمدرسة من تانى، وصممت على مواصلة تعليمى، حتى المرحلة الإعدادية.. تحدّت كل الظروف، لكن الحزن كان معششًا فيها، لم يغادرها أبدًا، كانت بتقعّدنى فى حجرها، وهى بتغنّى بصوت كله شجن وحزن باكٍ، تغنّى مواويل الصبر على قسوة الزمن.
أسألها: مالك يا أمى؟
ترد بسؤال: كان مكتوب لى فين ده كله؟
لما بالها كان يروق شوية تغنى لسعد زغلول:
«ياما خدوك على مالطة
وكل ده مافيش غلطة
يا سعد يا نور العين».
سعد زغلول مات ٢٣ أغسطس ١٩٢٧ قبل ما أتولد، وحكاية نفيه إلى مالطة كان قد مرّ عليها سنوات طويلة ٨ مارس ١٩١٩، لكن الأغنية دى كانت تغنيها دائمًا، مش عارف السبب، ولا أعرف مين مؤلفها.. يمكن يكون بتأثير الحالة السياسية العامة فى هذا الوقت، أو تأثير حزب الوفد على جموع المصريين.. أمى لم تكن متعلمة أو تعرف حاجة فى السياسة، لكن لا أنسى لها أبدًا هذه الأغنية لسعد زغلول، وبالتأكيد تركت أثرًا فى تكوينى.
أبويا كانت له قمينة طوب بيشتغل فيها «أنفار» من القرى المجاورة، وكانت مهمتى أن أقوم بإيقاظهم يوميًا فى الفجر، والبقاء معهم طول النهار.. كنت أجمع «الشغّيلة» فى فناء القمينة وأحوّلها إلى رقص وغناء، وفى كل مرة يكون نصيبى ضربًا وشتيمة وتوبيخًا: أنت مش هتفلح فى حاجة لها قيمة.. كانت القمينة فى جزيرة وسط المياه، وهى رأسماله اللى ضاع بسبب فيضان النيل وأنا عمرى تسع سنين «١٩٣٧»، بعدها انتقلت إلى العمل فى محلج قطن، ثم انتقلت للعمل فى مركب ينقل الأرز والقصب من رشيد بلد أمى إلى دسوق، ومن دسوق يرجع ببضائع إلى رشيد، وبمجرد وقوف المركب على شاطئ النيل فى رشيد، أجرى على الصيادين.. أركب النيل معاهم.. أرحل معاهم.. أسمع منهم أغانى عن الغربة والقدر والنصيب.
أبويا كان له وجه تانى، عاشق للغناء، مستعد يلف كل مكان فى دسوق والقرى المجاورة عشان يسمع المداحين والصييتة، كان يجيد إلقاء المواويل، يمسكنى من إيدى ونقطع المشاوير من قرية لقرية، ولما أرجع فى آخر الليل أجد أمى فى انتظارى تقول لى: ادخل يا صايع، كلبك وابنك إن بات برّه ماتسألش عليه.
فى الطريق كنت أسمعه بيغنّى مواويل بإحساس جميل، صوته كان عاديًا، لكن فيه حاجة تشد، أفتكر موال كان دايمًا يسلّيه وإحنا فى الطريق، كان بيغنّيه بالذات مع ليالى القمر:
«جس الطبيب فى عضالى قال لى أشبك
أنا قلت نار الغرام فى مهجتى أشبك
قال لى لو كان العشب عندى قلت ما عشبك
أنا دوايا عند اللى بهواه
خلينى أموت فى هواه حبى ولا عشبك».
هو موال يقوم على المناظرة بين اثنين من الصييتة فى مكان واحد، يبدأ الأول بارتجال موال، فيرد الثانى بارتجال مختلف، وينقسم الجمهور إلى فريقين، كل فريق مع واحد. تستمر السهرة على هذا الوضع حتى الصباح، والصييت اللى يعجز عن الارتجال يتسجل عليه.. واحد.. اتنين.. تلاتة. وبعد فترة راحة، يبدأ السباق من جديد، كانت المنافسة تصل إلى حد الخصام، ويتحول الخصام إلى صلح عن طريق المواويل أيضًا، تميزت فى هذا اللون أسماء كانت لها شهرة كبيرة فى محافظات بحرى: «محمد الأقرع، مصطفى عابدين، المسيرى».
سرادق مصطفى عابدين كان يتسع لآلاف فى مولد سيدنا إبراهيم الدسوقى، أهمية مصطفى عابدين لم تكن تقل عند جمهوره عن أهمية محمد عبدالوهاب.. المولد كان بالنسبة لى حاجة خاصة جدًا، كنت أقضى أيامه كلها أتفرج على ألعاب السيرك والرماية والسِّحر، تخطف عينى حياة المجاذيب والصوفيين.. أسمع كلمة من هنا وتعليقًا من هناك.
كان أقصى حلمى أن أكون مثلهم، أغنّى فى الموالد، حتى جاءت المرحلة الثانية، مرحلة ليلى مراد، بكيت حين استمعت إليها لأول مرة وهى تغنى، لا أتذكر الموعد بدقة، لكن أفتكر إنى سمعتها فى السينما وهى بتغنى «يا ما أرق النسيم» كلمات أحمد رامى، وألحان محمد عبدالوهاب، وغنتها فى فيلم «يحيا الحب» سنة ١٩٣٨.. كانت الأفلام تأتى إلى السينما الوحيدة فى دسوق بعد نزولها فى القاهرة بفترة، ولم أكن أملك ثمن تذكرة دخول السينما، فأفكر فى أى حيلة للتغلب على هذه المشكلة، كنت أبحث عن تذكرة قديمة ملقاة على الأرض، وأستغل فرصة الزحام، وأقدمها للموظف على أنها تذكرة جديدة.. سمعت أغنية «يا ما أرق النسيم.. لما يداعب خيالى.. خلانى وحدى أهيم.. وأسبح فى وادى الأمانى».
يا سلام على ليلى وجمالها فى الأغنية دى، جمال وعذوبة وشجن.. شاهدت كل أفلامها فى الأربعينيات فى سينما دسوق، وحفظت كل أغانيها وقلت لنفسى: بس.. هو ده طريقى، غنّيت أغانيها فى كل مكان: فى المدرسة، فى الشارع، اشتهرتُ فى دسوق بهذه الطريقة، وللتاريخ أقول: صوتى ظهر بأغانى ليلى مراد، هيّا اللى فتحت عينى على غناء مختلف عن غناء مولد الدسوقى، ومواويل مصطفى عابدين، ومحمد الأقرع.
أصبحت حديث المدينة، لم أترك تجمعًا إلا وغنيت فيه، تطورت الحكاية إلى دعوات فى بيوت البلد وأفراحها، انشغلت عن المدرسة، وتكرر رسوبى، اتهمتنى أمى بالفشل وخيبة الأمل، لم أهتمّ، خلاص كانت الحكاية عدت، ومشيت فى طريقى.
كانت الظروف بتترتب لى من غير قصد منى، فى يوم وبعد ما خلصت أغنية لليلى مراد، اقترب منى كاتب أو معاون الصحة فى دسوق «محمود الدفراوى»، خدنى فى أحضانه، وقال لى: صوتك جميل لكن محتاج رعاية، والمهمة دى أنا مسئول عنها، أخذنى لطبيب الوحدة الصحية ومأمور القسم، كان لهم مجلس سهر كل ليلة فيه ضحك وحكايات ونوادر وأخبار وسياسة وغناء وراديو.. المجلس ده تقريبًا هو أول انفتاح لى على الغناء.. غنيت فيه، أصبحت مطربهم المفضل، عرفت فيه حكايات عن أهل الفن فى القاهرة، حكايات عن التنافس بين محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، وحكايات عن أسمهان، وعن بيرم التونسى وزكريا أحمد وعن سيد درويش، وعن الملك فاروق ونزواته، وحزب الوفد، والإنجليز.
كان محمود الدفراوى عاشقًا للغناء ويعزف على العود.. كان شايفنى فى منطقة تانية، جاء إلى أبى ليستأذنه فى رعايتى، قال له: محمد ممكن يبقى حاجة كويسة.. رد أبى: خده هو كده كده ما بينفعنيش فى حاجة.. قلقت أمى لكن عم محمود طمأنها.
استلمنى الدفراوى. حدد لى خطواتى. وضعنى على أول الطريق الصحيح. علمنى العزف على العود، ومخارج الصوت الصحيحة. حفّظنى أدوارًا غنائية قديمة وموشحات. امتدت رعايته إلى حاجات تانية. عالجنى من مرض الإنكلستوما. أعطانى أدوية لتقوية جسمى. راقبنى مع بدايات سن المراهقة، سألنى: فى حاجات بتحصل معاك؟ طيب حافظ على نفسك كويس، علشان صوتك، كان ينصحنى، وفى نفس الوقت كان حمامة سلام بينى وبين أبويا وأمى: محمد ماشى على الطريق الصح، محمد اللى أنتم مستهترين به هيبقى حاجة كبيرة، فتعلق أمى: هيبقى إيه يعنى، أم كلثوم، محمد عبدالوهاب؟!
وابتدت الحكاية...