رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خطة التحفيز المالي خطوة على طريق استعادة التماسك الأوروبي

البرلمان الأوروبي
البرلمان الأوروبي

ناقش البرلمان الأوروبي اليوم الخميس، خطة التحفيز المالي التي توصل إليها القادة الأوروبيون في قمتهم الاستثنائية أول أمس الثلاثاء؛ لمواجهة الأضرار الاقتصادية الناتجة عن تفشي وباء كورونا، وذلك في خطوة اعتبرها كثيرون "تاريخية" في طريق تحقيق التضامن لدول التكتل الأوروبي، وتعزيز التعاون فيما بينهم خاصة في فترات الأزمات.

وبعد سلسلة طويلة من المفاوضات الماراثونية استمرت خمسة أيام، نجح قادة الاتحاد الأوروبي في إبرام هذا الاتفاق التاريخي حول خطة للإنعاش الاقتصادي في مرحلة ما بعد كورونا، والتي تنص على حزمة تمويلية بقيمة 750 مليار يورو -دعمًا للاقتصاد الأوروبي الذي يواجه ركودًا تاريخيًا- يمكن للمفوضية الأوروبية اقتراضها في الأسواق كقرض جماعي، ويتم توزيع هذا المبلغ بين 390 مليار يورو من المنح و360 مليار يورو من القروض، بحيث تقدم المنح للدول الأكثر تضررًا من وباء كورونا، وتمثل دينًا مشتركًا يتعين على الدول الـ27 سداده بصورة جماعية، أما القروض، فيتعين على الدول المستفيدة منها فقط القيام بسدادها.

وتضاف خطة الإنعاش هذه إلى ميزانية طويلة الأمد للاتّحاد الأوروبي (2021-2027) تبلغ قيمتها 1074 مليار يورو، وتوزع على 154 مليار يورو سنويًا، كما تم الاتفاق خلال القمة على إجراء تخفيضات كبيرة في مساهمات الدول "المقتصدة -التي تَعتبر أن حصتها الصافية في ميزانية الاتحاد الأوروبي غير متناسبة- تتراوح من 22% لهولندا إلى 138% للنمسا، فيما ظلت مساهمة ألمانيا بنفس مساهمتها.

وفور التوصل إلى اتفاق صباح الثلاثاء الماضي، توالت تصريحات القادة الأوروبيين التي تشيد بالاتفاق، وتعكس فرحتهم بالتوصل إلى هذا "الإنجاز التاريخي" كما عبر عنه كثيرون، كان من بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي وصفه بأنه "تغيير تاريخي لقارتنا الأوروبية ومنطقة اليورو"، فيما أعربت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن "ارتياحها الكبير إذ أثبتت أوروبا بعد مفاوضات صعبة أنه ما زال بالإمكان التحرك معًا".
ووصف رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي صندوق التعافي الاقتصادي بأنه "طموح"، مضيفًا أنه سيمكن المنطقة من مواجهة جائحة فيروس كورونا "بقوة وفاعلية".

وأشادت رئيسة الوزراء البلجيكية صوفي فيلمز بالاتفاق، مؤكدة أنه لم يسبق للاتحاد الأوروبي أن قرر الاستثمار بهذا القدر من الطموح في المستقبل، فيما أثنى رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز على "خطة عظيمة لأوروبا"، معتبرًا أنها "خطة مارشال حقيقية".

وأشار رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال إلى أن المفاوضات كانت "صعبة"، وجاءت في لحظة بالغة الصعوبة لجميع الأوروبيين، واصفا الاتفاق بأنه بمثابة "لحظة محورية" بالنسبة لأوروبا.

أما رئيس الوزراء الهولندي مارك روته -زعيم معسكر "المقتصدين" داخل الاتحاد الأوروبي- فرحب بنتائج القمة، قائلًا "أنا سعيد بهذه الاتفاقية.. ولا أرى أي خيبة أمل فيها"، مؤكدًا أن هذا القرض المشترك لا يشكل بداية "اتحاد نقل" للثروات بشكل دائم من الشمال إلى الجنوب، بل عملية موضعية تظهر ضرورتها بشكل جلي في ضوء الوضع الحالي".

وكانت أجواء القمة قد اتسمت بالتوتر الملحوظ على مدار أيام انعقادها، حيث شهدت المفاوضات معارك شرسة وانقسامات جلية في المواقف ووجهات النظر بين ألمانيا وفرنسا من جهة وفريق الدول "المقتصدة" الذي تزعمته هولندا وضم كلًا من النمسا والدنمارك والسويد إضافة إلى فنلندا.
وتركز جوهر الخلافات في معارضة هذه الدول المقتصدة؛ لتخصيص جزء كبير من أموال خطة الإنعاش الأوروبي للدول الأكثر تضررا من الوباء، مثل إيطاليا وإسبانيا، والتي تعتبرها هذه المجموعة شديدة التساهل على الصعيد المالي.

وكانت هذه الدول المقتصدة -وعلى رأسها هولندا- تفضل تقديم قروض قابلة للرد بدلًا من إعطاء منح مجانية للاقتصادات المتضررة من كورونا، والتي ترى أنها تحتاج إلى فرض رقابة أكثر صرامة حول كيفية إنفاق هذه الأموال.

وانتقد الرئيس الفرنسي معارضة المجموعة "المقتصدة" وتعنتها، وصعَد خلال المفاوضات من لهجته حتى وصل الأمر إلى قوله "إنّه يفضّل المغادرة على أن يعقد اتفاقًا سيّئًا".

وللتوفيق بين وجهتي النظر، عدلت المفوضية الأوروبية قواعد توزيع المنح لتكون على أساس مدى تضرر اقتصاد الدولة بأزمة كورونا، وليس وفقا لأرقام اقتصادها الكلي قبل الوباء، وتضمن الدولة -التي تتقدم للحصول على منح تقديم خطة إصلاح اقتصادي- الانتعاش وتلافي الآثار السلبية لأزمة وباء كورونا بالأساس، ويتم مراجعة تطبيق تلك الخطط من قبل المفوضية الأوروبية، على أن يكون لأي مجموعة من الدول الحق في الاعتراض على تقديم المزيد من المنح للدولة التي لا تلتزم بخطط الإصلاح أو بقواعد الاتحاد الأوروبي المتعلقة بتطبيق القانون، والقضاء على الفساد، وغيرها من القواعد.

وكانت هولندا تطالب بأن يكون حق الاعتراض لأي دولة، لكن المفوضية تقدمت بحل وسط بإمكانية اعتراض مجموعة من الدول، على أن يكون الفصل في الأمر من قبل المفوضية الأوروبية في غضون ثلاثة أشهر.

ووفقًا للمراقبين، فإن هذا الاتفاق يحظى بأهمية كبرى على الساحة الأوروبية، فمن ناحية، يمثل إنجازًا محسوبًا لقادة الدول الأوروبية حيث إن هذا الدين المشترك يعد خطوة غير مسبوقة يتخذها الاتحاد الأوروبي في تاريخه، فهي المرة الأولى التي تقوم المفوضية بالاقتراض من الأسواق؛ بهدف تمويل صندوق التعافي وهو ما يعني بدوره الحصول على مئات المليارات في شكل ديون على المفوضية، وليس من خلال البنك المركزي الأوروبي، كما كان الوضع في حزم إنقاذ سابقة سواء في الأزمة المالية العالمية عام 2008، أو في أزمات ديون دول مثل اليونان وغيرها.

ومن ناحية أخرى، جسد هذا الاتفاق نجاحًا ملفتًا وعودة للدور الثنائي الفرنسي الألماني، حيث تمكنت الدولتان من الدفع بحلول وسط للتوفيق بين دول الشمال، ودول الجنوب والاتفاق على حجم وآلية "صندوق التعافي"، وكذلك ميزانية الاتحاد الأوروبي حتى 2027.

ويتفق المراقبون أنه بالرغم من المفاوضات الشاقة المتعثرة التي شهدتها القمة، فإن خطة الإنعاش الاقتصادي -التي تم التوصل إليها- تمثل خطوة مهمة وفارقة على طريق استعادة التماسك والاندماج للاتحاد الأوروبي، حيث إنها أعادت الأمل في قدرة التكتل على تحقيق مزيد من التعاون والترابط في الفترات العصيبة والمضي قدمًا في خطط جماعية لمواجهة الأزمات، بعدما اهتزت الثقة في قدرته على القيام بذلك كثيرا في الفترات الأخيرة لاسيما خلال أزمة كورونا.

كما أثبت هذا الاتفاق قدرة الاتحاد في تحقيق مهمة كانت شبه مستحيلة لإنقاذ الاقتصادات الأكثر تضررا من هذه الجائحة ومواجهة أعنف صدمة اقتصادية تعرضت لها القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية.