رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكاتب الألمانى: هيرمان هيسه

هيرمان هيسه
هيرمان هيسه


حزينًا، لأنه لم يبلغ ما يريد، كان حاله أشبه بمن يستمع عند باب موارب، ووراء هذا الباب يتنفس أكثر الأسرار سحرًا، وفى اللحظة التى أحس فيها بأن كل شىء سوف يتضح ويتحقق، أغلق الباب وهبت ريح العالم الباردة على وحدته.
وفى أحلامه، كانت أمه تتحدث إليه، ولم يكن قد رأى وجهها وهيئتها قريبين هذا القرب وبهذا الوضوح منذ وقت طويل، وكذلك تحدثت إليه «آيريس»، وعندما استيقظ كان ثمة صدى يتردد فى أذنيه، وقد كرس له يومًا كاملًا من التفكير.. ولم يكن له مكان دائم للإقامة، بل كان يذرع البلاد كلها كالغريب، ينام فى المنازل أو فى الغابات، ويأكل الخبز أو القوت، ويشرب النبيذ أو الندى العالق على أوراق الآجام، ولكنه كان ناسيًا هذا كله، وحسبه البعض مجنونًا، وظن آخرون أنه ساحر، على حين خشيه البعض الآخر، وضحك منه قوم آخرون، وأحبه كثير من الناس.
وقد اكتسب مهارات لم تكن له من قبل أبدًا، كأن يختلط بالأطفال ويشارك فى ألعابهم الغريبة، أو يجرى أحاديث مع غصن مكسور أو حجر صغير، وكانت مواسم الشتاء والصيف تتسابق معه، وظل ينظر داخل أقداح الزهور، ويتأمل الغدران والبحيرات.
كان يُحدث نفسه أحيانًا قائلًا: «صور! كل شىء لا يعدم أن يكون صورًا».
ولكنه كان يشعر بأن هناك ماهية داخل نفسه وليست صورة، وهذا هو ما ظل يتابعه، وهذه الماهية المستقرة فى داخله كانت تتحدث أحيانًا، وكان صوتها هو صوت «آيريس» تارة، وصوت أمه تارة أخرى، وكان ذلك عزاءً وأملًا.
وصادفته عجائب كثيرة، ولكنه لم يُدهَش لها.. ومن أمثلة ذلك أنه كان يسير ذات يوم من أيام الشتاء خلال الجليد فى حقل مكشوف، والثلج يتراكم على لحيته، وهناك خرجت من الجليد سويقة رشيقة مدببة من زهور السوسن لا تحمل سوى زهرة واحدة جميلة، فانحنى عليها وابتسم، فقد أدرك الآن ما كانت «آيريس» تدفعه إلى تذكره المرة بعد الأخرى، وتعرف هنا على حلم طفولته حين شاهد بين الشرذمة الذهبية ذلك المعبر الأزرق الفاتح الذى تتخلله عروق لامعة ويؤدى إلى قلب الزهرة المستسر، وعلم أن هذا هو ما كان يبحث عنه، وأن هذه هى الماهية وليست صورة من الصور.
وعادت إليه التوقعات مرة أخرى، وكانت الأحلام تهديه، وذات مرة وجد كوخًا، وهناك قدم الأطفال اللبن إليه، وبينما كان يلعب معهم، قصوا عليه حكايات، وأخبروه بأن معجزة وقعت فى الغابة بالقرب من أكواخ الفحامين.. فهناك شاهد الناس بوابة الروح وقد فُتحت على مصراعيها، وهى البوابة التى لا تُفتح إلا مرة واحدة كل ألف سنة.. وأصغى إليهم «آنسلم» وأطرق رأسه متقبلًا تلك الصورة العزيزة، ومضى فى سبيله.
وعلى أجمة من آجام الحور غنى أمامه طائر، له نبرة غريبة عذبة شبيهة بصوت «آيريس» الراحلة.. وتابع الطائر ببصره وهو يحلق ويحط بعيدًا عنه فى أعماق الغابة.
من المجموعة القصصية: أحلام الناى