رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ناهد السيد تكتب: ثقافة المنع أم عواء القطيع

ناهد السيد
ناهد السيد

قرأت منشورًا تداوله طلاب «أكاديمية الفنون»، أوجع قلبي. أدركت منه أننا نتفنن في قتل المواهب، في قتل الشعور بالانتماء، ندفع شبابنا للهجرة، للانتحار، للإحباط.

كتب أحدهم «إحنا ندخل ورش قبول معاهد الأكاديمية عشان نغني أو نعزف أو نمثّل، ونفضل نسقط ونعافر ونقدم تاني وتالت، ونقضي سنين نذاكر وندفع من جيوبنا تمن مشاريع الدراسة، ونكافح عشان كارنيه ممارسة المهنة، وفي الآخر ييجي واحد محو أميّة يمثِّل، وسواق ميكروباص يغنّي ويلحّن ونطبّله، ويخرج كمان يمثِّل مصر. شكرًا يا مصر».

هذا ما حدث بالفعل؛ حتى إننا انقلبنا على كبيرنا الذي يمثِّلنا من أجل إطلاق المجال لظاهرة «مغنّي الميكروباص». هاني شاكر القيمة التاريخية التي سواء اختلفت مع ما يقدمه أو لا، جعلتموه أضحوكة ومسخرة، وانقلبتم عليه بـ«كوميكسات» ساخرة لا تليق بشعب من المفترض أنّه مثقّف، لمجرد أنه اتخذ قرارًا بالمنع.

صرختم «نحن ضد ثقافة المنع»، المنع هو أحد أضلع القوانين يا سادة، ولو كان النقيب صمت لأطلقتم سكاكينكم في صدره أيضًا. ما فعلتموه بسخريتكم هذه أنكّم شجعتم الظاهرة وساندتموها ضد صوت النقيب. ويا فرحة «شاكوش»، وصاحبه- الذي لا أحفظ اسمه- وأتجاهل أخبارهم كلما جاءت أمامي لما تبثه لي من استفزاز يشعرني بكم الانحطاط الذي أصبحنا عليه، الذي هو في حقيقة الأمر انعكاس أخلاقي وتربوي. لمرحلة تشتت وافتقاد القيمة والقدوة. افتقاد إلى ثقافة السمع. افتقاد الذائقة. ضياع الهوية. مرحلة ركلت من فوق رءوسنا سقف الأخلاق. صرنا عرايا بلا سقف وبلا أطر ولا حدود.

صرختم «لا لثقافة المنع»، وفضّلتم إطلاق الظاهرة تُحلِّق بغربانها فوق رءوسنا. أصبح لا ضير من ترديد الشتائم وألفاظ جنسية ومفردات كنّا نصم آذان صغارنا عنها قديمًا في الخلافات العائلية. أصبحت تُغنَّى ونطرِب لها ونتمايل معها ونلتقط صور صغارنا وهي تغنيها وننشرها افتخارًا بهم لحفظها.

هكذا صنعنا الظاهرة ونشرناها، ولما بادر المسئول بوقفها صرختم في وجهه، رافعين راية الرفض، ماذا تريدونه أن يفعل إذن؟ إذا كان تدخله جلب له السخرية.

البعض أشار بأنّ عليه أن يرتقي بالذوق العام ونختار الكلمات، كلام جميل، ولكن كيف يحدث ذلك إذا لم يتم منع تداول تلك الكلمات؟ لماذا نطلق الأحكام دون وعي ونسير خلف القطيع؟ إلى متى نظل عُرضة الانسياب خلف «بوستات» لأشخاص لديهم أخطاء إملائية وليس لهم ذكر في عالم الثقافة والفن؟ وننسى أنفسنا وتاريخنا وننساق خلف كلمة لو ركّزنا بها لأدركنا أننا نمارسها في حياتنا أكثر من الأكل والشرب.

إذا كنت ضد ثقافة المنع، لماذا لا تقترح حلولًا أخرى على النقيب وتنضم إلى صفه يا أيها المثقف الفذ. بدلًا من أن ترفع من شأن الظاهرة العفنة على حساب قيمتك ومقامك اللذين يمثلهما النقيب، إذا كان لديك حلول أخرى تقدَّم وشارك. لا تندفع خلف القطيع. وتقلَّد زمام الأمر.

قاطع هذه الأغاني، كن ضدها، صم آذان أولادك، اطربهم بكلمات الشعر وأغنيات أخرى، عد إلى تاريخ تربيتك وتذكَّر كم هاجموا أغاني «عدوية»، وقد كان إفرازًا لمرحلة تلاهي سياسي، انقسم الشعب وقتها لمحبين ومهاجمين، لكن ظلَّت المقاومة قائمة للحفاظ على نوع الموسيقى المُقدَّم وقتها، ولم يستوعب الشعب هذا السقوط المفاجئ، ثم أفسح له المجال تدريجيًا ليصبح نوعًا من الفن، نحلله الآن بوصفه انعكاسًا لمرحلة تاريخية، رغم الفارق الأعظم بينه وبين هؤلاء الآن.

ما يحدث الآن ليس سقوطًا مفاجئًا، ولكنه انزلاق تدريجي نفسح له الطريق بأيدينا دون وعي ونروِّج له ونستقبله بكل رضا، أفيقوا يا مثقفي وفناني مصر، انتفضوا لذائقة شعبكم. ارفعوا رايات الرفض لتلك الظواهر غير المشرِّفة التي تمثِّلكم بالخارج، لدينا قامات كبيرة وشباب مجتهد ومواهب مدفونة، لماذا نتجاهلها لصالح هؤلاء. لماذا نزرع العفن ليطرح راوائح كريهة تنتشر في العالم لتدل علينا. لا يجب أن يصدر النقيب وحده بيانًا. يحق للكتاب والشعراء والموسيقيين والمطربين أن يرفضوا أيضًا ولتكن البداية، الترحيب بثقافة المنع.