رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى صحبة صلاح عيسى.. فصول من مذكرات "جبرتى مصر" فى ذكرى رحيله

صلاح عيسى
صلاح عيسى

«ذاكرة الأمة التى تمشى على قدمين».. هكذا وصفوا مَن كتب عن «شخصيات لها العجب»، وصاغ بقلمه «حكايات من دفتر الوطن»، وتناسقت حروفه لتخرج رائعته «هوامش المقريزى»، قبل أن يتجلى فى «بيان مشترك ضد الزمن»، كاشفًا عن «رجال ريا وسكينة».

قضى حياته سيرًا على الأشواك، فى مشاغباته مع الأنظمة كانت له حكايات، لكنه فى النهاية بقى مريدًا فى حضرة «صاحبة الجلالة»، حيث صنع لنفسه مدرسة خاصة ترفع شعار «ممنوع الاقتراب أو حتى التقليد».
«فى صحبة صلاح عيسى»، يدور حوار «الدستور» مع زوجته الكاتبة الصحفية أمينة النقاش، التى تقدم قطوفًا من سيرته الذاتية، فى الذكرى الثانية لرحيله «٢٥ ديسمبر ٢٠١٧».

ترك «الإخوان» بسبب «حادث المنشية».. وعبدالناصر قال: «لن يغادر السجن ما دمت حيًا»

نحن الآن فى أكتوبر من العام ١٩٣٩، كل الأجواء تبدو هادئة فى مصر المحروسة مع حلول خريف هذا العام، «أفيشات» السينما تعلن عن بدء عرض فيلم «العزيمة»، من بطولة حسين صدقى، وفاطمة رشدى، والكاتب نجيب محفوظ يصدر روايته الأولى «عبث الأقدار»، والصراع بين القصر وحزب «الوفد» يدخل مرحلة من البيات الساكن والدافئ.
عناوين الصحف، فى تلك الأيام، تحمل لقارئها بعض الأخبار التقليدية عن الملك وأنشطة الحكومة، والأيام تمضى على وتيرة واحدة، فلا جديد يلوح فى الأفق ولا قديم يعاد.
لكن فى دلتا مصر، وتحديدًا فى قرية «بشلا»، بمحافظة الدقهلية، كانت هناك حركة غير عادية فى منزل «آل عيسى»، حيث الأسرة تستعد لاستقبال مولودها الجديد وابنها الأوسط، الذى اختار له والده اسم «صلاح».
من هذه النقطة، بدأت أمينة النقاش حديثها عن حياة الكاتب الكبير، مضيفة: «كان هذا المولود على موعد مع النشأة فى أسرة تبدو مختلفة بشكل كبير عن سائر الأسر فى ذلك المجتمع الريفى البسيط، حيث الاهتمام بالشأن العام والانخراط فى العمل السياسى، إلى جانب حب القراءة».
كان الأب يدين بالولاء الفكرى لحزب «الوفد»، بينما يرى العم فى مبادئ حزب «الأحرار الدستوريين» السبيل نحو حياة ديمقراطية واجتماعية رشيدة، وفى ذات التوقيت يقف العم الثانى على جانب آخر، باعتناقه أفكار جماعة «الإخوان». فى قلب هذا المناخ المتنوع، تفتحت عين الطفل صلاح عيسى، ليجد نفسه مبكرًا، ودون ترتيب، مرتبطًا بعالم الثقافة وصفحات الكتب، صاغته النشأة من ناحية، وأثقلته والدته السيدة مفيدة عبدالله عيسى من ناحية أخرى.
تلك المرأة الأمية تعلق قلبها بالكتب، رغم أنها لا تقرأ ولا تكتب، لكنها كانت حريصة على اقتناء المؤلفات التى ترصد سير الأنبياء والرسل، ودائمًا ما كانت تميل على ابنها «صلاح» ليقرأ عليها ما تيسر من سيرتهم الثرية والمُلهمة.
فى مرحلة التكوين، وتحديدًا خلال المرحلة الإعدادية، انتمى صلاح عيسى إلى «الإخوان»، فالجماعة كان لديها عدد من المراكز الثقافية فى القرية، وللقدر كان المسئول عنها رجل ضرير، وبحسه الإنسانى عرض الطفل خدماته على الرجل من باب المساعدة، لكنه بمرور الوقت أبدى تعاطفه مع أفكار «أبناء حسن البنا»، حتى وقعت الواقعة يوم «حادث المنشية»، عندما نفذ هؤلاء محاولة لاغتيال الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.
وقتها شعر «صلاح» بأن «بذلة الإخوان» بها ثقوب كثيرة، فقرر خلع رداء التعاطف مع الجماعة والانفصال عن أبنائها، فقد كان مؤمنًا بأن العنف ليس سبيلًا للعمل السياسى، وإنما الدعوة هى طريق الإصلاح الأساسى، بالإضافة إلى ذلك فقد أصابته صدمة تبرير وإلصاق فكرة القتل بالدين، التى كانت فجيعة وطامة كبرى من وجهة نظره.
كل الطرق فى حياته كانت تؤدى نحو العمل الصحفى، ففى فترة مبكرة من شبابه أسس «النادى الثقافى» فى قريته، الذى شكل نافذة فكرية تنفس من خلالها أبناء بلدته هواء العلم والمعرفة، وذلك عبر الاطلاع على العديد من الكتب والمؤلفات، إلى جانب مجلة حائط أسبوعية أشرف وحده على تحريرها وإخراجها.
توهجه الحقيقى كان أثناء دراسته فى المعهد العالى للخدمة الاجتماعية، حين أصبح العضو الأهم فى هيئة تحرير المجلة الناطقة باسم هذا الكيان التعليمى، فكل الأساتذة والزملاء انجذبوا إلى طريقته المبهرة فى الخطابة، وجذبهم أكثر أسلوبه فى الكتابة، لذا تصدر المشهد أثناء فترة دراسته، وبمجرد تخرجه بدأ العمل الصحفى بصورة احترافية.
ضربة البداية جاءت من بوابة جريدة «الحرية»، التى كانت تصدر من بيروت، وتمثل صوت القوميين العرب فى الشام، ثم تحولت لاحقًا إلى منبر لـ«الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، لكن النقطة الفاصلة فى مسيرته جاءت حين تم إلقاء القبض عليه عام ١٩٦٦، بصحبة عبدالرحمن الأبنودى، وجمال الغيطانى، وسيد حجاب، وآخرين، ومكثوا جميعًا فى السجن لمدة ٩ أشهر بتهمة تأسيس تنظيم يُدعى «وحدة الشيوعيين».
قبل نكسة ١٩٦٧ بقليل، وجهت القيادة المصرية دعوة إلى كل من سيمون دى بوفوار، وجان بول سارتر، للحضور إلى القاهرة، لكنهما اشترطا الإفراج عن المعتقلين السياسيين، الأمر الذى حدث لاحقًا واستفاد منه «صلاح».
بمجرد خروجه من المعتقل، عاد من جديد لسيرته الأولى، مكررًا مراسلة جريدة «الحرية»، التى كتب عبر صفحاتها مجموعة من المقالات بعنوان «ثورة ٢٣ يوليو بين المصير والمسير»، وضمها فيما بعد كتابه «مثقفون وعسكر»، رغم أنها أغضبت جمال عبدالناصر بشدة، فى ذلك الحين. فى عام ١٩٦٨، تم إلقاء القبض على صلاح عيسى مرة أخرى، من قلب ميدان التحرير، أثناء سيره فى مظاهرة تندد بالنكسة، وتهتف ضد الأحكام الصادرة بحق قادة سلاح الطيران، ولم يخرج من السجن إلا عام ١٩٧١، بعد وفاة «جمال».
ورغم توسط خالد محيى الدين، عضو مجلس قيادة الثورة، من أجل إطلاق سراحه، رفض الزعيم الراحل هذه الفكرة وقال: «كيف أفُرج عن شخص يصفنى فى مقالاته بالبرجوازى الصغير؟!.. طول ما أنا عايش مش هايطلع من السجن».
لكن، رغم حفلات التعذيب شبه اليومية التى تعرض لها أثناء سجنه، ظل صلاح عيسى وفيًا بالمحبة ومدينًا بالعرفان لـ«عبدالناصر»، فقد كان يراه- سواء اختلف أو اتفق مع سياساته- زعيمًا وطنيًا معاديًا للاستعمار، وصاحب مشروع وطنى داخلى يعتمد على الاستقلال الاقتصادى.
كما كان يرى أن ما حدث فى يونيو عام ١٩٦٧ لم يكن إلا محاولة من قوى الإثم والبغى بهدف قص جناح ذلك الطائر، خوفًا من تحليقه بوطنه وأمته فى سماء النجاح، تمهيدًا للعبور نحو مستقبل آمن يليق بحضارتها، وللعلم، لم يكن هذا موقف «صلاح» وحده، بل أيده فى ذلك أغلب المنتمين لـليسار المصرى.


أمينة النقاش: «الجمهورية» جمعتنا.. شقيقى رجاء رفض زواجنا.. وكان «نسخة» من والدى

فى بدايات عصر الرئيس السادات، ظن صلاح عيسى، وليس كل الظن إثمًا، أن القادم من حياته سيكون نعيمًا مقيمًا من رغد الحياة، وأنه سيودع شظف العيش وويلات السجون، ففى أوائل هذا العهد بدأت بشائر الرخاء تمطر سحبها، بعدما التحق بالعمل بجريدة «الجمهورية» بترشيح من زملائه، وهناك جمعه اللقاء الثانى بشريكة عمره، التى نقشت محبتها على جدران قلبه، أمينة النقاش.
تقول «أمينة» عن لقائهما: «حدث أننى ذهبت للتدريب فى مركز الأبحاث بمؤسسة دار التحرير، فعملت تحت إدارته، وكانت بيننا معرفة سابقة، فقد التقينا من قبل فى حضرة أخى الكاتب والأديب رجاء النقاش، فعندما كان رجاء يعمل رئيسًا لتحرير مجلة (الإذاعة والتليفزيون)، كان صلاح يكتب سلسلة مقالات على صفحاتها بعنوان (حكايات من مصر)، وأحيانًا ما كان يتردد على بيتنا للزيارة والحديث مع أخى، وهناك رأيته وتحدثنا، قبل أن تنقطع أخباره فيما بعد». خلال الفترة من عام ١٩٧٢ حتى ١٩٧٥، أخذ سهم الحب المنحنى التصاعدى بين «صلاح» و«أمينة»، لكن تم إلقاء القبض عليه مجددًا، وعقب خروجه من السجن عام ١٩٧٦، عادا من جديد للالتقاء، ومن ثم الارتباط فى عام ١٩٧٧، وقد لاقت فكرة الزواج منه معارضة ضارية من رجاء النقاش، رغم الصداقة التى جمعت بينهما.
تقول «أمينة»: «صممت على صلاح، ورغم أنه كان حينها مفصولًا من عمله، ومطلوبًا للسجن، وجدت فى شخصه التعويض المناسب لأبى الراحل، فقد كان نسخة ثانية منه، وإن اختلفا فى تفاصيل بسيطة». وتسجل «أمينة» شهادة صلاح عيسى على عصر «السادات»، قائلة: «البعض حاول الإيهام بوجود ثأر شخصى منه تجاه الرئيس الراحل بعدما حبسه وفصله مع عمله، لكن الثأر لم يكن شخصيًا، بل كان مع سياسات الانفتاح العشوائى التى أدت إلى إفقار طبقات الشعب، وحطمت معاقل الصناعات الوطنية مثل مجمعى الألومنيوم والأسمنت وغيرهما، بجانب مقاطعة العرب، والسماح بالهجوم الدائم والمتكرر على عبدالناصر».
لم يختلف الوضع كثيرًا خلال حقبة الرئيس الأسبق حسنى مبارك، فكانت العلاقة بين «صلاح» والسلطة أشبه بالمد والجزر، بمعنى أنه لم تكن هناك مودة أبدية ولا عداوة مستمرة. لذا كانت المصلحة العامة هى ما يحكم اختياراته وقراراته، وكانت علاقته بكل الأنظمة مبنية على الحياد فى التعامل، فلم يضبط يومًا منقلبًا على أفكاره، لكنه كان يدعم تغيير الطريقة للوصول إلى الهدف، باعتبار أن الزمن يتغير ولا بد من مواكبته ومجاراة تغييراته.


ترك كتابين غير مكتملين عن شهدى عطية وثورتى يناير ويونيو.. وخجله وراء كتاباته الساخرة

الكتابة فى التاريخ واختراق عالم التأريخ يحتاجان إلى شخصية بمواصفات محددة، لكن صلاح عيسى نجح فى حيازة لقب «جبرتى العصر الحديث»، واستطاع بمهارة شديدة تقديم لون صحفى مغاير تمامًا، يتمثل فى الكتابة الساخرة.. فكيف نجح فى الجمع بين «الحُسنيين»؟
تُجيب «أمينة النقاش»: «صلاح بطبعه كان شخصية خجولة جدًا، فمثلًا، عندما كان يتلقّى عبارات المديح على أحد مقالاته أو كتبه تجده على الفور يبدأ فى تغيير دفة الحديث فى اتجاه مغاير، ولم يكن متيمًا بالاستماع لكلمات الثناء، ولهذا أعتقد أن الكتابة الساخرة التى تبناها فى مقالاته كانت معالجة لخجله».
اللقطة الأهم فى حكايته مع الكتابة الساخرة، هى أن كتاباته كان ينطبق عليها مقولة طه حسين بأنها «تعُض.. لكنها لا تجرح»، فهى لم تكن تسيل دمًا، وبالتالى، ورغم الاختلاف، كان يترك الفرصة متاحة للحوار بينه ومن ينتقده، فهو لم يكن محبًا فكرة الخلاف من أجل الخلاف، إنما للنقاش حول الأفكار دون الطعن فى الأشخاص.
تضيف «أمينة»: «لهذا دائمًا ما وجدته يقول: من العيب فى التكوين الفكرى والثقافى لأى كاتب أو إنسان ألا يرى فى خصومه مزاياهم، باعتبار أنه لا يوجد شر مطلق فى البشر». أما عن تميزه فى كتاباته التاريخية، فكان هذا نابعًا، من وجهة نظرها، من عشقه وشغفه بعلم التاريخ، فقد كانت لديه فلسفة خاصة وفكرة رئيسية تقود قلمه، ألا وهى التأثير، الذى يعنى الوصول لأكبر قاعدة قُراء بأعمق وأيسر طريقة ممكنة، ومن هنا لجأ إلى الكتابة بالأسلوب القصصى والروائى، باعتبارها أقرب الطرق لقلب وعقل المتُلقى. أعتقد أنه نجح فى صنع هذه التوليفة باقتدار، تقول «أمينة»، إن سر هذا التفرد اطلاعه على كل المؤلفات والكتب، فالمعرفة، من وجهة نظره، لا حدود لها ولا سماء تظلها، لذا ضمت مكتبته أعمالًا إسلامية وأوروبية وروايات وغيرها، ولهذا لم يكن مستغربًا أن يقدم واحدة من أهم الدراسات التى حللت شخصية سيد قطب.
باختصار كان «صلاح» يشبه «القطر» فى علاقته مع القراءة، فتجده فى جميع أحواله وحتى أهواله منكفئًا على الكتب.
لا يمكن أن يمر الحديث عن الراحل صلاح عيسى دون التطرق لتجربته الرائدة فى جريدة «القاهرة»، التى مثلت فتحًا صحفيًا جديدًا وأحدثت حيوية فى شارع الثقافة فى مصر بتأثيرها الواسع.
تقول عنها «أمينة»: «عشقه لمهنة الصحافة كان سببًا فى نجاح التجربة، فقد كانت لديه مهارات خاصة فى إخراج الصفحة وتوظيف الصورة والاهتمام بالمتن وجمع المادة، بجانب إتاحته الفرصة لجيل من الشباب.. كان يبحث عن التحقق فى وسط صاخب لا يحصل فيه الموهوبون على فرصة حقيقية إلا على استحياء».
اللمحة الفاصلة التى أسهمت فى ثراء التجربة تمثلت فى تأثر صلاح عيسى بالأديب الكبير نجيب محفوظ، فهو كان لا يمل ولا يكل من قراءة أعماله أو سماع أحاديثه، أو حتى ما يكتب عنه، فقد كان حافظًا لقطع من كتاباته، ودائمًا ما يرددها، ويقول عن الأديب الكبير إنه شخص متسق مع نفسه، ويتمتع بالتواضع وينعم بالسلام النفسى رغم موهبته الفذة، وقد انعكس هذا النهم وتجلى على صفحات جريدة «القاهرة».
تضيف «أمينة»: «أعتقد أنه لم يتأثر فى حياته الصحفية إلا بأديب نوبل، وأيضًا العظيم أحمد بهاء الدين، فإليه يعود الفضل فى ارتباطه بالتاريخ عندما قرأ له مبكرًا كتابه (أيام لها تاريخ)».
وكانت لـ«صلاح» طقوس خاصة فى الكتابة، فكان يكتب كتابين فى توقيت واحد، وعندما يبدأ فى تحرير أحد كتبه تصادفه واقعة ما، فيبدأ فى تحرى القصص عنها ليخرجها فى كتاب آخر، وفى ذات الوقت، يقطع أشواطًا فى إنهاء مؤلفه الآخر، وأحيانًا ما يصدر العملين فى توقيت متزامن ومتلازم أيضًا. وحتى اللحظات الأخيرة لم يبتعد عن الشأن العام، فعندما عُرض عليه رئاسة المجلس الأعلى للصحافة لم يتردد فى القبول، لإحساسه الدائم بالمسئولية، رغم أن حالته الصحية لم تكن تسمح ببذل مجهود مضاعف، لكنه مع ذلك أدى واجبه على خير وجه وأتم كفاءة. تختم أمينة النقاش حديثها، قائلة: «خلال الفترة المقبلة أستعد لإصدار مجموعة من الأعمال الخاصة التى بدأها ولم يستكملها، ومنها كتاب عن الراحل شُهدى عطية، إلى جانب عمل آخر عن ثورتى يناير ويونيو، وأستعد لإصدار مذكراته، التى أرصد من خلالها سيرته الذاتية، وسيكون عنوانها (فى صحبة صلاح عيسى)».