رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السنيورة: السياسيون يشتمون بعضهم علنًا ويتفقون على توزيع المغانم سرًا (حوار)

جريدة الدستور

رئاسة الحكومة «صفحة وطويتها» ونعانى من وجود ممانعة فى الإصلاح

«الحكومات الائتلافية» مؤقتة لإدارة أزمة معينة لكنها تحكم بلادنامنذ 11 عامًا

الحريرى استقال تجنبًا لحل يخلق مشكلات جديدة فى ظل عدم تلبية مطالب الشباب


رأى فؤاد السنيورة، رئيس وزراء لبنان خلال الفترة من يوليو ٢٠٠٥ حتى نوفمبر ٢٠٠٩، أن الرئيس اللبنانى، العماد ميشال عون، يتلكأ فى إجراء «الاستشارات النيابية» المطلوبة لتشكيل الحكومة فى البلاد، مطالبًا بسرعة الانتهاء منها، معلقًا على إمكانية ترشحه لرئاسة الحكومة بقوله: «هذه صفحة وطويتها». وأرجع «السنيورة»، فى حواره مع «الدستور»، خروج الشباب إلى الشارع للمطالبة بإصلاحات جذرية إلى عمل السياسيين والحركات الطائفية، بشكل دائم، على حصر اللبنانيين فى مربعات طائفية ومذهبية، وتخويفهم من بعضهم بعضًا، وتحول المواطن إلى «زبون» لدى الدولة. وعرض رئيس الوزراء اللبنانى الأسبق رؤيته لحل أزمة «الفراغ السياسى» الحالية، وكيف يتم إقناع «حزب الله» بتشكيل حكومة من المستقلين، وغيرها من ملفات الداخل اللبنانى.

■ بداية.. لماذا فقد المواطن اللبنانى ثقته فى الدولة ومؤسساتها؟
- بسبب الممارسات السياسية وهى مشكلة قديمة فى لبنان. فمنذ حوالى ١٨ عامًا نعانى وجود ممانعة فى تنفيذ الإصلاحات اللازمة لتكيف البلاد مع المتغيرات والتحولات الدولية.
ومنذ «اتفاق الدوحة» عام ٢٠٠٨ لجأ لبنان لأسلوب جديد فى الحكم هو الحكومات الائتلافية، وهذه الحكومات، رغم أنها موجودة فى الأنظمة الديمقراطية فى العالم، فإنها فى حقيقتها استثنائية، وترجع إليها الدول عندما تواجه مأزقًا معينًا ومشكلات صعبة مثل الحروب والأوبئة والفيضانات. ففى هذه المشكلات تتولى الحكومات الائتلافية والمؤقتة معالجة الأزمة ثم تعود الأمور لما ينبغى أن تكون عليه.
ويعنى ذلك أن تشكل الحكومة من أكثرية تحكم وأقلية تعارض، حسب النظام الديمقراطى، وفى هذا يكون من حق الأقلية أن تعبر عن رأيها وتنتقد، وبالتالى تكون هناك مساءلة ومحاسبة، وهو ما لا يحدث فى لبنان حاليًا.
■ هل يعنى ذلك أن تشكيل حكومة ائتلافية لا يمكنه حل الأزمة الراهنة؟
- كما قلت، أنا مع فكرة وجود حكومة ائتلافية لمعالجة ظروف محددة فى وقت محدد، لكن لبنان أمضى نحو ١١ عامًا وهو يعانى استمرار الحكومات الائتلافية، لذا أصبح هناك تعاون وتواطؤ من الأحزاب المشاركة فى هذه الحكومات على تقاسم السلطة ومغانمها مع بعضها بعضًا.
وبالتالى فقدت العملية الديمقراطية فى لبنان دورها الحقيقى، وأصبح السياسيون جميعًا يشتمون بعضهم فى العلن، ويتفقون فيما بينهم على توزيع المغانم فى السر، وذلك على حساب المواطنين وعلى حساب الدولة اللبنانية، التى أصبحت عرضة للالتهام من الدويلات المذهبية والأحزاب والساسة.
وتلك هى حقيقة المشكلة التى أصبحنا عليها ويشكو منها لبنان، ما أدى لفقدان الثقة فى ظل التردى الإدارى والاقتصادى والمالى، لذا فإن الشباب والشابات فى هذه الانتفاضة كانوا يطالبون بوزراء مستقلين من غير الحزبيين والائتلافيين. أما بالنسبة لرئيس الحكومة فينبغى أن يكون سياسيًا، وله تجربة فى الحكم والعمل السياسى.
■ فى ظل هذا المشهد.. كيف تقرأ استقالة سعد الحريرى من رئاسة الوزراء؟
- الرئيس الحريرى حاول أكثر من مرة إقناع جميع الأطراف بأن الوسيلة الوحيدة للخروج من هذا المأزق هى الإقرار بتراكم المشكلات فى لبنان، وأوضح أن الإصلاحات الحقيقية هى الطريق الوحيد الذى يؤدى لإعادة الثقة بين المواطنين اللبنانيين ودولتهم، وبين لبنان والمجتمع الدولى.
وفى هذا السياق، بذل «الحريرى» جهودًا من أجل إقناع الجميع بأن هذا الطريق هو المسلك الصحيح الذى يؤدى للخروج من الأزمة، وكان هناك تجاوب من بعض التيارات السياسية، وموافقة على بعض الأسماء، لكن لم يكن من الطبيعى أن يستمر فى ظل عدم وجود نية حقيقية لتلبية مطالب الحراك السياسى.
■ لماذا لم يقبل «الحريرى» تشكيل الحكومة الجديدة مع الإصرار على تشكيلها من المستقلين؟
- سعد الحريرى فعل ما يعتقد فى صحته، وطالب بتشكيل حكومة من المختصين والناجحين، الذين تتوافر بهم سبل النزاهة، وهؤلاء كثيرون فى لبنان وليسوا قلة، وهو ما أدى به للعزوف عن قبول أى تكليف، لأنه ليس مستعدًا لقبول حل يدفع لمشكلات جديدة فى لبنان، وأنا فى ذلك أؤيده. وقلت وأكرر إن الحكومات الائتلافية حالات استثنائية، كما أن حكومة الاختصاصيين «التكنوقراط» هى حالة استثنائية، وتمنح الفرصة للسياسيين الذين درجوا على أن يكونوا وزراء على أن يرتاحوا قليلًا من مناصبهم، وأن يعودوا للعمل السياسى عبر وجودهم فى مجلس النواب مع ممارسة التشريع والانتقاد والرقابة.
وأنا فى ذلك لا أقول إن إعفاء هؤلاء السياسيين ضرورة، لكنى لا أرى أيضًا ضرورة أن يظلوا فى هذه الوزارات، خاصة أنهم فشلوا فيها، ولو كانوا قد نجحوا لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من فشل، وليس منطقيًا أن يجبرنا منْ فشل على العودة من جديد لتولى أمورنا.
■ كيف تقيم تعامل «حزب الله» مع الحراك الشعبى؟
- «حزب الله» متوجس من هذه التظاهرات، وخلال السنوات الأخيرة، كان أول من تنكر وتنصل من الصيغ التى تم التوافق عليها فى الحكومات الائتلافية، وعلى رأسها «إعلان بعبدا» عام ٢٠١٢، الذى تم التوافق فيه على أن يحترم جميع الأطياف صيغة النأى بالنفس عن الخلافات العربية، وعدم التدخل فيما تعانيه بعض أقاليم الجوار من أزمات وصراعات، مع احترام سيادة كل دولة.
كما نص الاتفاق على تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية، وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات الإقليمية. ما عدا ما يتعلق بواجب التزام قرارات الشرعية الدولية والإجماع العربى والقضية الفلسطينية المحقة، بما فى ذلك حق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم.
■ كيف يمكن إقناع الحزب بالموافقة على حكومة المستقلين؟
- هذه الحكومة من الممكن أن تضم أعضاء من الديمقراطيين ممن لديهم صداقات مع «حزب الله»، وبالتالى يمكن أن يطمئن لها، علمًا بأن الحزب لديه علاقات مع «حركة أمل»، و«التيار الوطنى الحر»، ومع الأحزاب الصغيرة الأخرى، لذلك لديه إمكانيه أن يُسقط الحكومة إذا ما أراد أن يسحب منها الثقة.
الوضع الذى وصلنا إليه، هو حالة انفلات كامل من أى ضوابط، وبالتالى رفض «حزب الله» الحركة الشبابية التى عبرت عن نفسها بهذه المواقف الواضحة، ونحن كلبنانيين نرفض أن نبقى فى مربعاتنا المذهبية والطائفية.
نحن نريد أن نبقى مواطنين فى لبنان نعيش فى ظل المواطنة والتعايش السلمى لا الطائفية والتناحر، وعلى هذا الأساس يجب أن ندعم حقوق المواطنة، والشباب فى المظاهرات يطالبون بدولة المواطنة، وهم محقون فى ذلك، وهذا الحراك من أفضل وأهم الظواهر التى مر بها لبنان منذ ١٠٠ عام.
■ ما الذى يريده الشارع فى رأيك؟
- السياسيون والحركات الطائفية دائمًا ما كانوا يظلمون الشارع، ويحصرون اللبنانيين فى هذه المربعات الطائفية والمذهبية، ويخوفونهم من الآخر، وبالتالى يجعلونهم يتذمرون من بعضهم بعضًا، ومن شركائهم فى الوطن. هؤلاء الشباب قالوا: «لقد ضقنا من هذه السياسات»، نحن نرفض كل الأشياء التى أوصلتنا إلى هذا السوء فى الإدارة العامة للبلاد، نحن نطالب بأن يتم التعامل مع المواطنين باحترام، اللبنانيون لهم حقوق يجب أن تحترم بغض النظر عن انتماء أى منهم، سواء كان مسيحيًا أو مسلمًا أو سنيًا أو شيعيًا أو أرثوذكسيًا.
و«اتفاق الطائف» عام ١٩٨٩ ينص على فكرة المساواة، وينص على سلمية التحول إلى دولة الموطنة، والشباب اليوم يطالبون بترسيخ هذه القيم، والعودة إلى الأفكار الصحيحة، بعد أن تنكر السياسيون للقانون والدستور وللاتفاق ولاستقلالية القضاء. نحن نطالب باحترام مصلحة الدولة التى ينبغى أن تكون السلطة الوحيدة فى لبنان، وأيضًا حل أزمة البيروقراطية، عبر جعل الكفاءة والجدارة المعيار الأول لتولى المنصب، وهذا هو ما يطالب به الشباب.
■ ما موقف النخبة السياسية من هذه المطالب؟
- السياسيون يتوجسون منها، لأنهم اعتادوا على تحويل الدولة لمزارع يستفيدون ويغتنون منها، كما اعتادوا على استمرار بقائهم فى السلطة، وحولوا المواطن إلى «زبون». تخيل أن المواطن أصبح «زبونًا» عند الدولة التى من المفترض أن تقدم له الخدمات دون أى مقابل لأنه مواطن فيها.
■ هل من الممكن أن ينزلق لبنان إلى حرب أهلية جديدة؟
- هذه مخاوف يرددها كثيرون، لكنى أعتقد أن اللبنانيين باستثناء «حزب الله» لا يملكون سلاحًا، ولا يفضلون أن يكون معهم سلاح، وأيقنوا أن هذه الطريقة لن تؤدى إلى نتيجة، وأن هذا الأمر يؤدى إلى مزيد من التدمير.
لبنان منذ أكثر من ٤٥ عامًا يعانى حروبًا وويلات وتدخلات. منذ عام ١٩٧٥ وهو يتعرض لحروب دولية عديدة. ففى الأعوام ١٩٨٣ و١٩٨٨ و١٩٩٦ و٢٠٠٠ و٢٠٠٦ تعرض لحروب وتهديدات من الاحتلال الإسرائيلى، بالإضافة إلى التهديدات الداخلية وسيطرة الأحزاب والسياسيين والحركات الطائفية. فمن الطبيعى أن يؤدى كل ذلك إلى إنهاك لبنان واقتصاده، وتقليل قدرته على الصمود فى وجه الصدمات. ومع ذلك قدم اللبنانيون ما يستطيعون من أجل أن يبقى لبنان صامدًا، ويتخطى تلك الأزمات، إلى أن جاءت الأزمة الأخيرة، وظهر فيها فعليًّا هذا البارق من النور، الذى ظهر من خلال أولئك الشباب الذين عبروا عن مواقفهم بهذه الطريقة، فى خطوة تعد- كما قلت- أهم ما جرى فى لبنان خلال الـ١٠٠ عام الماضية.
■ ألا تخشى من الأجندات الخارجية التى تتدخل فى الشأن اللبنانى؟
- نعم، هناك أجندات خارجية من خلال الدولة الإيرانية، وربما من خلال الإسرائيليين أو غيرهم، وأنا دائمًا ما أقول إن الله تبارك وتعالى يقول فى كتابه العزيز «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، لذا الأمر يخص اللبنانيين، بتمكنهم من تولى شئون أمرهم من دون تدخلات الآخرين أو الاعتماد عليها.
والشباب اللبنانيون فى الحراك الأخير أعطونا طرقًا ناصعة ونموذجًا لكيفية العودة إلى مصلحة لبنان ومصلحة المواطنين، فى أن يكون هناك دائمًا حكم رشيد وحوكمة صحيحة، وتطلع إلى مصلحة لبنان والعالم العربى، لأن لبنان جزء من العالم العربى، وبالتالى يجب أن تكون هذه المصالح مبنية على هذا الأساس، دون أى تدخلات خارجية.
■ هل يمكن أن يستمر «الفراغ السياسى» الحالى كثيرًا؟
- كلا، وما يمكن تحقيقه اليوم بتكلفة معينة، لا يمكن تحقيقه بهذه التكلفة غدًا، لأنها ستكون أكثر ألمًا.
■ هل تقبل رئاسة الحكومة مرة أخرى إذا ما عُرضت عليك؟
- الموضوع بالنسبة لى «صفحة وطويتها»، وكنت أرشح الرئيس سعد الحريرى، وهو اعتذر، لنرى ماذا سيقول النواب، لأن لهم الصلاحية، حسب الدستور، فى أن يسموا من يقترحونه لتولى هذه المسئولية.
علينا أن نعود إلى الكتاب، وهو الدستور الذى ينظم علاقات الناس، وعلاقات الدولة مع مواطنيها، وهذا الأمر الطبيعى ينبغى أن يقوم به رئيس الجمهورية، وهو الذى تلكأ حتى الآن، إذ يخالف الدستور ويعمد إلى محاولة إضاعة الوقت فى هذا الشأن، من أجل أن يصل إلى «تركيبة» يراها هو. والدستور لا يتيح له القيام بذلك، بل عليه أن يبادر إلى إجراء «الاستشارات النيابية الملزمة» وأن يحترم نتائجها، وهذا الأمر طبيعى، وهو الذى يتوجب على الرئيس فعله، وأعتقد أن أشد ما يحتاجه الناس فى هذه المرحلة ذلك الدور الذى ينص عليه الدستور. فرئيس الجمهورية هو رمز البلاد وهو فوق كل السلطات، وعليه أن يتصرف فى هذا الشأن، ونأمل أن يكون الجميع قد استوعبوا هذه الدروس الآن.
ماذا تقول للشعب فى ظل الأزمة التى تشهدها البلاد؟
- لبنان هو الرسالة التى تحدث عنها البابا يوحنا بولس الثانى، والرسالة ليست فقط لأبنائه، بل ولمحيطه والعالم، رسالة العيش المشترك والاعتراف بالآخر وقبوله.
لبنان جزء من العالم العربى الذى عليه أن يعطى هذا النموذج فى العيش المشترك للجميع، وبالتالى علينا أن نحافظ عليه، وأن نؤكد الحكم الرشيد لإدارة شئوننا العامة، والقيام بالإصلاحات، وهذا هو الطريق الوحيد لاستعادة الثقة ما بين اللبنانيين وحكومتهم ودولتهم ومجتمعهم السياسى.