رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طه حسين قال إنهم استبدوا بمصر.. هل يؤمن المصريون بأنهم عرب؟

طه حسين
طه حسين

قبل ثلاثة أيام حلت علينا الذكرى السنوية رقم 130 لمولد عميد الأدب العربي طه حسين (1889 - 1973)، الذي حفر عميقًا في البناء الفكري للمجتمعات المصرية والعربية، وكانت مؤلفاته نبراسًا للأجيال اللاحقة.

وكانت مسألة "عروبة مصر" محل جدال طويل بين المصريين، وتناولها العديد من المفكرين والأدباء بالتفكيك والمناقشة، وانقسمت الآراء حيالها لمؤيد ومعارض وكل فريق يسوق أدلته وحيثياته.

"الدستور" تفتح في المساحة التالية، وبالتزامن مع ذكرى مولد طه حسين عميد الأدب العربي، ملف "عروبة مصر".

نظرة تاريخية

منذ ثلاثينيات القرن الماضي والجدل حول "عروبة مصر" من عدمها لا ينقطع، رغم تضارب معدل الهبوط والصعود في النقاش حول هذا الموضوع، فأحيانًا يصعد الجدل لمعدل المعارك العامرة بالمقالات والأخذ والرد، وأحيانًا يخفت الجدال لاعتبارات سياسية، ويعاود الصعود مرة أخرى، لكن على مستوى الدراسات، فهناك دراسة للدكتور أحمد صلاح الملا صدرت طبعتها الثانية عن دار مصر العربية للنشر والتوزيع عام 2014، يناقش فيها مسألة العروبة من زواياها التي بحثت من قبل، ويزيد جانبين طازجين في المسألة، وهما رأي أقباط مصر في مسألة عروبة مصر، ونظرة العرب لمصر كشريك عربي.

أولاً: الثلاثينيات

شهدت فترة الثلاثينيات تزامن صعود التيار العروبي في مصر مع ذبول الموجة العلمانية التي كانت سائدة طوال العشرينات ومع عودة التيارات التوفيقية إسلامية الطابع إلى الصعود، واستنفاذ المشروع الليبرالي الكلاسيكي في مصر بعد عام 1936 بدأ غالبية المصريين في البحث عن مشروعات بديلة، وكانت جماعة مصر الفتاة وجماعات الإخوان المسلمين قد بدأت تمزج بجدية وحتمية بين الفكرة القومية العربية وبين المعطى الحضاري الإسلامي.

وفي هذه الأجواء كتب طه حسين مقالًا بجريدة كوكب الشرق عام 1933 لم يهدف من خلالها إلى إشعال حرب فكرية حول قصة عروبة مصر، فقد اشتعلت الحرب بسبب كلمة في جملة قال فيها "إن المصريين قد خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين".

ورغم أن ذكر العرب هنا ضمن غزاة جاءوا إلى مصر بالشر والخير ووفقًا للحقائق التاريخية الموثقة عن مرحلة فتح العرب مصر، إلا أن ذلك أثار حفيظة و"غيرة" بعض المثقفين في حينها حول "القومية العربية" التى بدأت بذورها تمتد إلى أذهان أغلب مفكري هذا العصر كفكرة مضادة للتغريب الذي ساد في مصر في فترة الاحتلال الإنجليزي لمصر، وبادر السياسي عبدالرحمن عزام بأول رد على طه حسين في جريدة البلاغ حوّل دفة النقاش من الحديث حول تاريخ فتح العرب لمصر، وما حدث فيه من بغي كبير من العرب على المصريين إلى توريط طه حسين في جدال حول عروبة مصر.

أنكر طه حسين على عزام اتهامه له بالإساءة للعرب إنما حديثه يأتي من منبع تاريخي لا يمكن إنكاره، فأزاد عزام من حدة النقاش وطالب في مقال له في جريدة البلاغ طه حسين وغيره "فليذهب إذن دعاة الفرعونية في مصر أو الفينيقية في سوريا أو الآشورية في العراق حيث شاءوا فإذا استطاعوا أن يستنهضوا قرية واحدة باسم الأمم التي فنيت في أهل العربية فإنهم يستطيعون أن يقيموا شعوبيتهم على أساس عميق. أما الدعوة باسم العربية فإنها تستنهض سبعين مليونًا في إفريقيا وآسيا".

ويبدو أن مناصري وجهة نظر عزام كانوا أكثر وأشرس في الدعم من المنحازين لرأي طه حسين -سلامة موسى كان من أبرز المناصرين القلائل- فجاءت أغلب مقالات الرد على طه حسين هجومية تتهمه بالانسحاق لموجة التغريب التى تعمل لصالح الاحتلال الإنجليزي، فكتب محب الدين الخطيب مقالًا في البلاغ، قال فيه أن الإنجليز اجتهدوا لكي "يوهموا النشء المصري بأن وجود العربية والإسلام في مصر إنما هو احتلال كالاحتلال الفارسي واليوناني والروماني والفرنسي والإنكليزي".

ثانيًا: السبعينيات

في سبعينيات القرن الماضي تجدد النقاش مرة أخرى حينما كتب توفيق الحكيم مقالًا بجريدة الأهرام دعا فيه إلى أن تنفض مصر يدها من الصراع العربي والصراع العالمي معًا، وتهتم بشئونها الخاصة حتى تتمكن من حل مشاكلها المتراكمة آنذاك. وقد أيده في دعوته الدكتور حسين فوزي ثم لويس عوض، وكتب لويس عوض ثلاث مقالات طويلة يسرد فيها أسباب معارضته لفكرة عروبة مصر وإنكاره لمصطلح القومية العربية، وسرعان ما أصبح الدكتور لويس عوض الفارس الأول في المعركة ضد عروبة مصر وضد القومية العربية.

كان لويس عوض هو الأكثر جرأة في معارضة مسألة العروبة وربطها بالقومية، وقال في غير حيد أو مواربة "الدعوة إلى الوحدة الاندماجية الكبرى القائمة على العروبة العرقية أو العنصرية الملتهمة لكل ما في المنطقة من قوميات فالعروبة العرقية لون من ألوان النازية".

وعلى إثر تلك المقالات كتب رجاء النقاش مقالات في مجلة المصور عام 1978 ردًا على ما أسماهم "الانعزاليون"، وهم توفيق الحكيم ولويس عوض وحسين فوزي، وهى المقالات التي نشرها فيما بعد في كتابه "الانعزاليون في مصر"

مصر والعروبة وأزمة الوعي وإشكالية الهوية

أبرز النقاط وأذكاها التي ناقشها الدكتور أحمد صلاح الملا في كتابه "مصر والعروبة وأزمة الوعي وإشكالية الهوية" كان الفصل الخاص بنظرة الأقباط المصريين لمسألة عروبة مصر، فبين الطموح العلماني والهاجس الإسلامي حاول الملا تلمس رؤية الأقباط محددة لمسألة عروبة مصر والقومية العربية.

يقول الملا إن قدرة الأقباط على الاندماج في إطار الجماعة الوطنية كانت تزداد كلما كان المشروع الوطني المطروح "مصريًا" فقط، لا يخضع مصر لكيانات أوسع سواء كانت عربية أو اسلامية، وأيضا كلما كان هذا المشروع ميالا إلى العلمانية والانفتاح، وأبرز مثال على ذلك كانت محاولات سلامة موسى للتركيز على ربط مصر بأوروبا وليس بالعرب، حين اعتبر أن شعوب البحر المتوسط تنتمى جميعا إلى أصل عرقي واحد، ودعا سلامة موسى في كتابه "اليوم والغد" إلى ضرورة أن ينظر المواطن المصري إلى اللغة العربية نظرته إلى اللغة الروسية.

واستعان الملا بمرجع للدكتور أبوسيف يوسف بعنوان "الأقباط والقومية العربية" رأي فيه أن الفكرة التي استهوت الأقباط بشكل واضح كانت هي الفكرة الفرعونية، ويرجع القبول القبطي بهذه الفكرة إلى أكثر من سبب، فهي عند البعض من الأقباط شكلت طرحًا ملائمًا للاندماج الوطني بينما عبرت عند قطاع آخر منهم عن إحساسهم الدفين بأنهم "أبناء مصر الحقيقيين" حيث يؤكد الأقباط- بخلاف المسلمين- على نقاوة دمائهم، وبفضل هذا صمد "التراث الفرعوني القبطي" في وجه الفتح الإسلامي وما تلاه من تعريب مصر".

يقول الملا: "وتتويجًا لقوة الفكرة الفرعونية بين الأقباط، تكون عام 1909 حزب قبطي يدعو لهذه الفكرة على يد أخنوخ فانوس وقد أكد هذا الحزب أن الحضارة العربية طارئة على مصر، وأن الفرعونية هي التجسيد الحقيقي للوطنية المصرية، ويلاحظ أنه منذ ذلك الحين تزايدت مسألة تسمية الأقباط لأبنائهم بأسماء فرعونية مثل رمسيس – إيزيس – مينا وغير ذلك".

ويعتبر الملا أن مخاوف الأقباط قد وصلت مداها في منتصف الخمسينيات والستينيات مع تأكيد عبدالناصر على عروبة مصر وتأكيد الوجه "المتدين" لنظامه بإنشاء بعض المؤسسات ذات الطابع الإسلامي مثل المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وإذاعة القرآن الكريم والتي دعمت لدى الأقباط الإحساس بالتباس الطرح القومي للنظام الإسلامي، وهو ما تسبب في موجة هجرة قبطية واسعة من مصر في بداية الستينيات خاصة بين أبناء الطبقة البرجوزاية الغنية والميسورة.

وفي الفصل الخاص بـ"رؤية العرب لمصر"؛ كشف الملا عن زاوية جديدة وهي هل يعتبر العرب مصر جزء من المشروع القومي فعلا؟ يقول الملا "من أبرز مظاهر استبعاد مصر من التصورات الأولى للقومية العربية أن الثورة العربية الكبرى التي اندلعت أثناء الحرب العالمية الأولى لم تدرج مصر ضمن حدود الدولة العربية التي رسمها الشريف حسين في مفاوضاته مع البريطانيين، لكن في نهاية الخمسينات بدأ الانبهار العربي بمصر وتجسد ذلك في رغبة الجماهير العربية في جذب مصر للقيام بدور زعيم العروبة مع قبول جماهيري عربي لفكرة الزعامة المصرية تلك أو على الأقل أن تكون مصر هي الشقيقة الكبرى للعرب وهو ما وجد استقبال لدى عبدالناصر الذي عمل على تأكيد توجهاته العروبية وهو ما ظهر في إصداره "فلسفة الثورة" وإطلاقه إذاعة صوت العرب.

وإجمالا لمسألة عروبة مصر يبدو أن الأزمة برمتها نابعة من تعريف ساطع الحصري لمسألة العروبة والتي قال فيها: "إن كل من ينتسب إلى البلاد العربية هو عربي مهما كان اسم الدولة التي يحمل جنسيتها بصورة رسمية ومهما كانت الديانة التي يدين بها والمذهب الذي ينتمي إليه ومهما كان أصله ونسبه وتاريخ حياة أسرته فهو عربي، والعروبة ليست خاصة بأبناء الجزيرة العربية ولا مختصة بالمسلمين وحدهم، بل إنها تشمل كل من ينتسب إلى البلاد العربية ويتكلم باللغة العربية سواء كان مصريا أو كويتيا أو مراكشيا وسواء كان مسلمًا أو مسيحيًا وسواء كان سنيًا أو جعفريًا أو درزيًا وسواء كان أرثوذكسيا أو بروتستانتيا، فهو من أبناء العروبة مادام ينتسب إلى البلاد العربية ويتكلم العربية".