رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الدهب لو يجرى إيه برضه باينة اللمعة فيه»

جريدة الدستور

لم أزل بعد فى الطريق، أفكر أن أرتاح قليلًا وليجرِ ما يجرى، ما زال هناك وقت، الذهاب للعزاء من وسط البلد يكاد يكون جحيمًا حقيقيًا، عملت حساب الوقت والطريق لكننى لم أتوقع هذا، كانت فكرة صائبة أن تحركت فى ميعاد مبكر جدًا، سائق الميكروباص بجلباب بلدى يضيق عليك الطريق، يرمى بسيارته حتى تظن أنه سوف يصعد سقف سيارتك بسيارته، لو جاء فى بال اليابانى الذى اخترع هذه السيارات أنها سوف تُستخدم بهذه الطريقة ما صنعها من الأساس، وربما انتحر.
أكاد أصيح فى وجه السائق: حاسب يا بنى آدم، ألمح نظرة شماتة وربما استهزاء فى عين أقرب راكب، أتراجع بحسرة، هذه النظرة أعرفها جيدًا، من يركب الميكروباص كما لو كان حاقدًا على من لديه سيارة خاصة.
فى إحدى المرات التى ركبته فيها كنت أشعر بأن هناك لمعة انتصار وتشفٍ فى عيون الركاب حين يتخطى الميكروباص كل السيارات الخاصة بجانبهم، كأن هناك معركة دائمة لا تنتهى، ولا تعرف بالضبط من الذى أشعل هذا الفتيل، ربما أشعلها الذين يأكلون ولا يتركون الفتات حتى لغيرهم.
مرة قال ضابط يفتى فى كل شىء: إنهم ينقلون نصف ركاب القاهرة ومن حق السائقين أن يشعروا بالزهو، عرفت فيما بعد أن هذا الضابط لديه سيارتان تعملان على أحد الخطوط، تناوب على قيادتهما أحيانًا أمناء شرطة يعملون لزيادة دخلهم، لا تدفعان مخالفات ولا يوقفهما أحد مهما ارتكبتا من أخطاء، قال آخر: إنها لعبة القوة، من يملكها ينتصر ويدوس القانون، من الأصغر حتى الراس الكبيرة، قانون واحد.
الآن تمر برأسى صورة الضابط «أمين»، لا أتذكر بقية اسمه، أكاد ألمحه، أتخيل أنى ألمحه، كان ضابطًا فى الأمن المركزى، لم يكن راضيًا بدوره، لا يمر يوم دون أن يدخل علينا ببشر تعاركوا مع بعضهم البعض، أو اختلف أحدهم مع سمكرى سيارات أو ميكانيكى على الأجرة، وفى اليوم الذى تعز فيه الخناقات، يقبض على مشتبه بهم على مزاجه، يأتى بهم للتحرى عنهم.
كنا نشكره ونفحص، وأحيانًا لا نفحص، لا ينقصنا وجع دماغ، كان تقديرنا أنه باحث عن دور، دوره الذى يقوم به لا يكفيه، يضحك ضابط ويقول: إنه يتمرن على المباحث من الآن، لا بد أن أقاربه يضغطون عليه، لا يرضيهم دوره، لا يقبض على أحد ولا تظهر سلطته، الناس لا يحترمون إلا القوى، وربما تأثر بذلك فأيقظوا خصيتيه.
المصيبة أنه كان يأتى فى يوم تالٍ ليسأل عن مصير من أحضرهم.
قلنا إنه مجنون، وضحكت أنا، قلنا إن عسكريته منفوخة بعض الشىء، قلنا وقلنا حتى جاء يوم استفرد به بعض المسجلين الذين يعرفون جيدًا أنه لا له فى الثور ولا الطحين، أعطوه علقة متينة لم يستطع فيها أن يستخدم سلاحه وهربوا، خطفوه منه ثم رموه له حين أحسوا أنهم نجوا.
أحضرناهم له، شبع فيهم ضربًا لكنه لم يعد بعد ذلك.
آه يا زمن الأنصاص، فيه إيه حصل للناس،
تعمل حاوى تحضّر وتخاوى، عشان تتعلم م الناس،
والدهب لو يجرى إيه، تبقى برضه اللمعة فيه.
حين يأتى ذِكر الذهب أفكر فى البنت التى أحببتها، اشتريت خاتمًا لكننى لم أقدمه لها، تمنيت لو أهديته لها رغم رحيلها.
حين تأتى سيرة الذهب أتذكر عبقرينو، ولد من ذهب، عاش تحت إبطى، لم أبخل عليه بمعلومة ولم يبخل علىّ بعقله ولا روحه، كل يوم كان يزداد لمعانًا وبريقًا عن اليوم الذى قبله.
صحيح أننى لم أكن ضالته، كان يبحث عن نفسه أولًا وأخيرًا، عن حلمه أن يكون ضابطًا، حققته له وقبلته عندى دون كشف هيئة، دون وساطات، يضع صورة لى فى محفظته وأخرى فى قلبه، رد لىّ الجميل مائة مرة، عندما كنت أعيره ليعمل مع ضباط آخرين لم يكن يتحرك خطوة دون أن يستشيرنى.
رجلان وامرأتان احتالوا على اثنين من وافدى سياحة الجنس، ذهبوا معًا لشقة لإتمام المهمة والنتيجة معروفة، تم تخديرهما وسلب ما معهما، لم يتركوا لهما شيئًا إلا السراويل الداخلية.
كأننى أرى الآن لمعة عينيه.
لم تكن القضية عندى، كانت مع ضباط آخرين تأخروا فى بحثها، كل يوم قضية من هذا النوع، والجدول مزدحم بما هو أهم، الضباط يقضون نصف يومهم فى الشوارع، وتراجع الأمن العادى لحساب السياسى.
اتخذ قراره، أن ينزل وحده، بساقين غير مترددتين، قبض على المرأتين، وتبقى الرجلان المتهمان ومعهما الأشياء المسروقة لكنهما عبرا المديرية إلى مديرية أخرى، استطاع بحركة بسيطة بتتبع هواتفهما أن يحدد موقعهما، قضية جاهزة وسهلة تحتاج فقط للسرعة والمروءة.
لحقه ضابط برتبة صغيرة، حين أخبرنى كنت أعرف أن الضابط لن يعبر معه، الضابط يتّبع القواعد، تلك مديرية أخرى لها ضباط آخرون، وسيأخذون القضية لأنفسهم، خاصة إن مكان الفاعل معروفًا.
سلاح ذو حدين للضابط، يلعب فى ملعب غير ملعبه ولهذا تراجع، ضابط مؤخرته خفيفة، لا يستطيع أن يتجاوز التعليمات، النظام يكبله، ومن فوقه يركب عليه، كله راكب فوق بعضه، ولا يستطيع أن يأخذ قرارًا دون كبيره، الشغلانة التى تُعلم الإقدام تُعلم الجبن أحيانًا.
هذا كلام لا يُقنع عبقرينو ولا يُرضى شهوته، لا تعنيه القواعد ولا تُلزمه، هو ملتزم فقط بضالته أينما حلت، وربما يضرب نفسه بالنار لو وافق على قرار الضابط وعاد.
الضابط الدكر عزيز، موجود، لكنه يحتاج أن يكون مغامرًا ليخلق فرصته، مقامرًا يستعين بالحظ، وإذا كان المجرم يقول وهو يسرق: استرها يا رب فلمَ لا يقول الضابط: استرها يا ستار؟.
الوقت سلاح ضابط المباحث وإلا طار الصيد من العش وهرب الخنزير من الوكر.
.. «أنا لو مكانك سأعبر الحدود وأقبض عليهما مهما كانت النتائج، وإلا طارت القضية برمتها».
أخذ قراره، مضى وحده بسيارته وسلاحه، نعم سلاحه، لا تسألنى عزيزى القارئ كيف!
فقط تخيل معى لمعة بياض عينيه، لمعة غزيرة تضىء حين كنا نعثر على أول خيط، تعرف ساعتها أنه دخل دائرة الإثارة، وأنه ليس ذاهبًا للقبض على متهم أو حل لغز قضية، بل ذاهبًا بشراهة لمعانقة امرأة يشتهيها بقوة، ذاهبًا إلى حبيبة يعشقها وتعشقه بعد أن تاهت منه لسنوات وعرف مكانها فى الليلة ذاتها.
■ أتخيل الآن، الجزء اللاسع فى دماغى هو ذاته الملسوع فى دماغ عبقرينو، كنت أربطه بالواقعة كأنها ملكه، أضىء له الكشافات فيصبح هو من يرى، أشحن له بطارياته، أعطيه دورًا، دور الفتى الأول فى الفيلم، نعم، كنا نتعامل مع أية قضية كأنها فيلم سينمائى، أنا أعرف الموضوع الأساسى للفيلم، لكن هو صاحب التفاصيل الصغيرة، لا يترك تفصيلة، هو المونتير الذى يختصر اللقطات الزائدة ويركب الباقى معًا، يلضم المشاهد، ينقل واحد مكان آخر ليشد الإيقاع، ينفضها واصلًا إلى هدفه بإيقاع سريع وتناغم غريبين، وحين نخرج معًا كنت أرى واحدًا آخر، أرى إحساسه بذاته يفيض على الأرض.
■ أنا من أعرف الكبيرة، لكنه يعرف الحوارى، مرة بعد مرة يلقط ويستفيد، لم يكن يرى عيبًا أن أوجّهَه حتى بعد أن صار خبيرًا، لم أبخل عليه بسر، لست من أولئك الضباط الذين يعتقدون أن كل معلومة سر حربى من أسرار الدولة، وفى اللحظة الموعودة أمرر التمريرة الأخيرة لتبدأ الإثارة.
■ كنت أضع الجميع معى، الكل يفكر تحت قدميه، عبقرينو وحده كان يفكر خارج الصندوق.
من رواية: جنازة جديدة لعماد حمدى