رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدولة المدنية.. والخطاب الإعلامى


هناك ظروف قد مر بها المسيحيون فى مصر على مدى التاريخ جعلتهم يفضلون الهجرة إلى الكنيسة مما أسس لعلاقة غير صحيحة بين الدولة وبين الكنيسة، حيث إن الدولة طوال عهودها المتغيرة المختلفة والمتناقضة تتعامل وكأن الكنيسة هى ممثل الأقباط.

منذ استفتاء 19 مارس 2011 الذى كان بداية لتحويل هَبَّة 25 يناير 2011 العظيمة من هبة تؤسس لبداية ثورة حقيقية تحقق مبادئها المعلنة وهى: عيش حرية وعدالة اجتماعية كرامة إنسانية إلى مجرد حركة إصلاحية لم تحقق أهدافها حتى إن هذا الاستثناء جاء متجاهلا يناير من الأساس معتبرا أن القضية هى سقوط مبارك أى سقوط السلطة القائمة والتأسيس لسلطة قادمة باسم النظام الإسلامى مستغلين الديمقراطية التى لا يؤمنون بها، فهى رجس من عمل الشيطان الأوروبى، الشىء الذى خلق استقطابا حاداً بين الدولة المدنية والدولة الدينية، والدولة المدنية فى تعريفها البسيط دون تعكيرات وتنظيرات هى تلك الدولة التى لا تحكم حكما عسكريا كنظام عسكرى يعتمد على الضبط والربط الذى يتحول إلى قوانين طوارئ واستثنائية وعسكرية.

وهى أيضا تلك الدولة التى لا تحكم برجال الدين تلك الدولة الدينية الثيوقراطية، ولكنها هى الدولة التى تحكم بالقانون والقانون وحده الذى لا يفرق بين مواطن وآخر لأى سبب كان، ولذا فهذه الدولة تؤسس وتعلى من ما يسمى الآن بـ«حقوق المواطنة» تلك الدولة التى لا تعطى حقوقا تؤسس على أى خصوصية فى الدين أو الجنس أو اللون ولكنها تتعامل مع الجميع على قدم المساواة ولا فضل لأحد من أجل دينه أو واسطته ولكن لكفاءته وقدرته وإجادته، والدولة الدينية هنا لا تعنى أن يحكم رجال الدين بشكل مباشر فلا يوجد ما يسمى برجال الدين فى الإسلام، ولكن عندما يقوم الحاكم بربط أجندته السياسية وقراراته الإدارية ورؤيته الشخصية بالدين فهذا خلط بين الدينى والسياسى لصالح السياسى خاصة أن العاطفة الدينية دائما ما تكون ساخنة ومرتفعة عند المصريين بجميع دياناتهم، أما فى المسيحية فقد سقطت الدولة الدينية فى أوروبا وتم الفصل بين الدين والسياسة بل والحياة بكاملها، وهنا فى مصر لاشك فإن الدين والتدين والتمسك بالقيم الدينية والمقاصد العليا للأديان جميعا تمثل علاقة أساسية لا تنفصل عن المواطن أيا كانت درجة تدينه أو رؤيته الإيمانية ولذا فنحن مع فصل الدين عن السياسة ولكن لا نستطيع أن نفصل الدين عن الحياة فهذا شىء وذاك شىء آخر.

كما أن هناك ظروفا قد مر بها المسيحيون فى مصر على مدى التاريخ جعلتهم يفضلون الهجرة إلى الكنيسة مما أسس لعلاقة غير صحيحة بين الدولة وبين الكنيسة، حيث إن الدولة طوال عهودها المتغيرة المختلفة والمتناقضة تتعامل وكأن الكنيسة هى ممثل الأقباط الشيء الذى أضر بالأقباط أكبر الضرر وضخم من دور متخيل للكنيسة لا تستطيع ولا يجب أن تقوم به، وإنما كنا ولا زلنا ننادى بعدم قيام الكنيسة بدور سياسى على الإطلاق ودون لف ودوران من قبل الدولة أو الكنيسة، فالدولة حتى فى عهد مرسى كانت تتمنى قيام الكنيسة بدور سياسى وهذا الدور الذى تريده الدولة رأى نظام سياسى هى أن تقوم الكنيسة بدعوة تابعيها إلى انتخاب الحزب الحاكم واختيار الرئيس القائم ومساندة النظام فى كل ما يريد هذا الدور قام به البابا شنودة على خير قيام ولكن لقدرته على المناورة استطاع أن يحول هذا الدور فى كثير من المواقف إلى صالحه الشخصى مستغلا هذا الدور للضغط على النظام كما يريد وفى التوقيت الذى يريد وهذا بلا شك تدخل فى السياسة برغبة الكنيسة ويرضى الدولة.

ولكن بعد يونيو وسقوط نظام الإخوان الذى كان يريد نظاما دينيا حتى ولو كان تحت مسمى التجربة الإسلامية أو الدولة المدنية تحسنا على اعتبار أن الإسلام لا يوجد فيه حكم رجال الدين «بالرغم من التجربة الإيرانية»، لا يجب البتة على الإطلاق وفى ظل المناداة بالدولة المدنية التى أيدها الأزهر فى وثيقته أن تكون هناك ظل للدولة الدينية فى أى شكل كان، ولكن للأسف فالإعلام العظيم الذى لا يتحرك من منطلق المبادئ العليا للوطن ولكن من أجل المصالح الخاصة لصاحب القناة أو حسب الرؤية الخاصة للمذيع الذى أصبح الآن لا علاقة له بالمهنة بقدر علاقته بما يسمى بالخبطات الصحفية التى تزيد من الإعلانات وليذهب الجميع إلى الجحيم.

ولذا فقد رأينا السيد خيرى رمضان يجرى حديثا تليفزيونيا مع البابا تواضروس يوم الخميس الماضى ويصر كعادته هو وكل أمثاله وزملائه من المذيعين أن يجر البابا لقضايا سياسية بامتياز سواء فى محاولة لإبداء الرأى فى قضية سياسية ساخنة فى ظروف هى قمة السخونة أو أن يتم التأكيد بلا مواربة على الاعتراف بقيام البابا بدور سياسى، ولا نعلم هذا فى صالح من؟ فلا هو لصالح البابا ولا الكنيسة ولا الأقباط والأهم ولا الوطن، هذا الحوار قد أكد للطرف الثانى الذى حاول استغلال وجود البابا عند إعلان خارطة الطريق أن البابا يقوم بدور سياسى، وما تم فى الحوار خاصة توقيته غير المناسب الآن إطلاقا يسعد دعاة الدولة الدينية لأنه إذا كان البابا يتحدث فى مثل هذه القضايا مثل الانتخابات البرلمانية والرئاسية ويتحدث عن عدد الأقباط ويؤكد أن الكنيسة قد اختارت شفيق لقدرته على إدارة وزارة الطيران وحديثه الذى لم يعترض فيه على انتخاب السيسى رئيسا للجمهورية وتدخله فى مواد الدستور خاصة فى القضايا الخلافية فيما يسمى بمواد الهوية.

والسعادة تأتى من زاوية إذا كان البابا يتحدث فى السياسة ويتدخل فيها فهل لا يكون من حق التيار الإسلامى ودعاة الدولة الدينية أن يتحدثوا ويمارسوا السياسة خاصة وهم يتصورون أنهم الأوصياء على الإسلام والمسلمين؟ والغريب أن السيد خيرى هو وغيره يصرون دائما ومنذ عهد البابا شنودة على سؤال عن عدد الأقباط، فما المقصود وما الخلفية المراد إيصالها وما النتيجة المطلوبة غير قسمة الوطن وتفتيته وتجزئته، وإذا كانت الأسئلة نفسها للبابا السابق والحالى قبل يناير وبعد يونيو الأسئلة نفسها، فما الجديد وأين التأسيس وما دور الإعلام فى التأكيد على الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة؟

أهى شعارات، أهى تناقضات، أم هى أدوار باهتة مغيبة لا علاقة لها بالواقع؟ الدولة المدنية يا سادة هى غياب المؤسسات الدينية عن التدخل فى العمل السياسى وهو العمل السياسى اليومى والقضايا السياسية الساخنة تتحمل الخلاف فى الرأى ووجهات النظر نتيجة للانتماءات الفكرية والحزبية والأيديولوجية.

أما المؤسسات الدينية فعملها هو الدعوة للدين والتبشير به والعمل على إرشاد وتطبيق قيمه على أرض الواقع وهذا فى حد ذاته عمل وطنى رائع ومطلوب ومهم ولا استغناء عنه، فليتركوا رجال الدين التدخل فى السياسة للمواطنين خارج المسجد والكنيسة فما أكثر السياسيين والزعماء المتخيلين والساعين للزعامة الآن فى مصر ولتهتم المؤسسات الدينية بدورها الروحى والدينى الذى لا وجود له الآن فالإيمان عند الجميع قد تحول إلى تدين شكلى لا يسعى إلى تطبيق قيم الدين بقدر ما يسعى إلى الاختلاف مع الآخر، فكفى تناقضا بين الأقوال والأفعال، والوطن يحتاج إلى الجميع وجهود الجميع وإلى تحديد المواقف الفاصلة بعيدا عن التوازنات التى لا تصلح فى فعل هذه الظروف الفاصلة فى تاريخ الوطن، حمى الله مصر من كل سوء ومن اللاعبين على كل الملاعب حتى تظل مصر لكل المصريين.

■ كاتب سياسى وبرلمانى سابق