رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إبراهيم نجم يكتب: دار الإفتاء ونداء الرئيس

إبراهيم نجم
إبراهيم نجم

أصبحت قضية تجديد الخطاب الدينى من أهم القضايا التى تتصدر اهتمامات الرأى العام وتشغل أذهان كثير من المفكرين والعلماء وأهل الرأى، ولا يخفى على أحد أن سبب هذا الاهتمام هو شيوع حالة الفوضى الإفتائية والخطابية التى شغلت حيزًا كبيرًا من منابر الخطاب الدينى فى الآونة الأخيرة، وقد نتج عن هذه الفوضى تصدر كثير من أنصاف المتعلمين من غير المتخصصين من أصحاب الفكر المتشدد والرأى الجامد والنظرة الأحادية، التى لا ثمرة لها فى نهاية المطاف إلا الإرهاب وسفك الدماء ونشر الفوضى.
من هنا جاءت المطالبات وتكررت النداءات بضرورة الاهتمام بتجديد الخطاب الدينى، وكانت للرئيس عبدالفتاح السيسى عدة نداءات للمؤسسات الدينية، كالأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية ووزارة الأوقاف، بضرورة التصدى لتصحيح مسار الخطاب الدينى بطريقة علمية تجمع بين المحافظة على ثوابت الدين التى لا خلاف عليها، وبين ما تتطلبه ضرورة التجديد من مواكبة للعصر ومراعاة للتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى تستوجب تغيير الفتاوى من عصر إلى عصر بحسب الواقع، مع مراعاة مقاصد الشرع الحنيف، وجاء هذا النداء ليبعث روح التجديد والاجتهاد، وليحرك المياه الراكدة، وليستنهض الهمم والجهود التى طال انتظارها من جموع الأمة الإسلامية بل ومن العالم أجمع.
واستجابة لهذا النداء انطلقت دار الإفتاء المصرية بمؤسساتها وعلمائها وخبراتها وما تحمله من رصيد من الثقة لصدق هدفها وسمو رسالتها لتؤدى واجب الوقت. ومن خلال الدراسات والبحوث والبرامج والمؤتمرات العلمية الجادة، ظهرت رؤية دار الإفتاء لماهية التجديد، وهى رؤية تتمثل فى عدم إهدار التراث، لأنه يمثل ثروة معرفية حضارية كبيرة لا يمكن إهمالها، لكنها أيضًا لا تتوقف عند التراث ولا تستغرق فيه ولا تجمد عند مسائله، لأنها تدرك تمامًا أن أكثر تفاصيله قد تجاوزها الواقع وأصبحت مجرد تاريخ، فهى رؤية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، رؤية تدرك الواقع بإشكالياته وقضاياه المعقدة، وتضع له من خلال عملية اجتهاد جماعى دقيق الحلول الناجعة لتلك المشكلات، رؤية تستشرف المستقبل أيضًا، وتهدف إلى أن تترك للأجيال القادمة من العلم والثقافة والقيم والأخلاق ما ينتفعون ويفخرون به. وقد أدركت دار الإفتاء، وهى تضع قواعد التجديد وتخوض غماره، أن عملية التجديد رسالة عامة شاملة لجميع مؤسسات المجتمع المعنية بالتنوير والتعليم والتوجيه، وليست مقصورة على المؤسسات الدينية وحدها، فانطلقت من خلال وسائل الإعلام المختلفة، وفى مقدمتها مواقع التواصل الاجتماعى إلى بث خطابها التجديدى عن طريق ثُلة من العلماء المتخصصين، الذين يتواصلون مع الجماهير بشكل مباشر ومستمر، يجيبون عن الأسئلة ويناقشون الأفكار ويصححون المفاهيم ويردون على الشبهات، كما كانت دار الإفتاء المصرية حاضرة بشكل دائم برأيها وبياناتها ومواقفها الجريئة فى المساهمة فى رفع وزيادة درجة الوعى والإدراك لما يحدث فى كل ما يمر به الوطن من أحداث جسام، وبخاصة حملات التشكيك والإرجاف التى يقودها الموتورون والإرهابيون، فكانت تطلق صيحات التحذير والبيانات القوية لجماهير الأمة التى تثق فى دار الإفتاء حتى لا يتأثر الناس بالأكاذيب والشائعات، وأدركت دار الإفتاء أيضًا فى مسيرة التجديد أهمية الانفتاح على العالم الخارجى الذى اتخذ موقف الريبة والشك وأحيانًا العداء من الإسلام والمسلمين فيما عرف بظاهرة الإسلاموفوبيا، وتواصلت بمنهج علمى دقيق مع المؤسسات العالمية الفاعلة كبرلمانات الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة، وجاب علماؤها العالم شرقًا وغربًا لتصحيح الصورة الذهنية التى صدرها المتطرفون عن الإسلام وأيضًا عما يحدث فى مصر، فصححت الصورة وبينت الحقائق بالأدلة القاطعة وأبرمت العديد من بروتوكولات التعاون مع هذه المؤسسات العالمية واعتُمدت دار الإفتاء لدى هذه المؤسسات كهيئة رسمية معتمدة موثوق بها فى التعبير عن رأى الدين فى القضايا المختلفة، وفى أثناء هذه الجهود المكوكية لتصحيح المفاهيم وتجديد الخطاب الدينى، أدركت دار الإفتاء المصرية أهمية التكاتف والتعاون وتوحيد الرؤية بين دول العالم الإسلامى ومؤسساته الدينية وبخاصة المعنية بالإفتاء ونشر الإسلام، فكان انطلاق الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم كمؤسسة عالمية تعكس ريادة مصر بما تمثله من تاريخ وحضارة وثقل دولى وإسلامى وتمثل الأمانة مؤسسة عالمية وبوتقة جامعة للمؤسسات والهيئات المشتغلة بالإفتاء وتوجيه الخطاب الدينى فى العالم، وسرعان ما ظهرت الأمانة إلى النور برؤيتها وأهدافها ووسائلها وبرامجها حتى سارعت مؤسسات الإفتاء فى العالم إلى المشاركة فيها والتعاون معها، لما لمسته من سمو رسالتها وجدية عملها، وحملت الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم مسئولية تجديد الخطاب الدينى وتصحيح المفاهيم من خلال توحيد جهود المؤسسات والعلماء فى هذه البوتقة، فعقدت المؤتمر العالمى لدور الإفتاء العالمية على مدار أربع سنوات، وهذا المؤتمر من خلال ما أنشأه من علاقات وروابط للتواصل والتعاون بين المؤسسات والعلماء أيضًا أسهم مساهمة كبيرة جدًا فى تصحيح الصورة العالمية عن مصر وما يجرى فيها من أحداث، حيث سعت الجماعة الإرهابية إلى تشويه سمعة مصر بإلصاق تهمة الظلم والاستبداد السياسى بها، وكان بعض العلماء المشاركين فى المؤتمر يأتون بصورة مشوهة ويرجعون إلى بلادهم كسفراء لمصر ينقلون الصورة الصحيحة التى عايشوها بأنفسهم.
تدرك دار الإفتاء أن الطريق نحو التجديد والبناء ما زال طويلًا، ولكن مع المثابرة والتطوير المستمر والانفتاح المنضبط سنجنى ثمار البناء والاستقرار والتنمية بإذن الله.