رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صلاح فضل: الشعراء يحتقرون الجمهور (حوار)

صلاح فضل
صلاح فضل

نفى الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل مهاجمته الشعر لصالح الرواية، موضحًا أن مقالاته الأخيرة حول تراجع الشعر هدفها إحداث مصالحة بين من يكتبون الشعر الآن وبين الجمهور الذى هجره، والمصالحة بينهم وبين الناشرين الذين لم يعودوا يهتمون بالنشر لهم، والمصالحة بينهم وبين مناهج التعليم، التى لم تعد تعنى بهم، والمصالحة بينهم وبين أدوات الإعلام التى تتجاهلهم. وقال «فضل»، فى حواره مع «الدستور»، إن شعراء العامية أذكى من شعراء القصيدة الفصحى، لأنهم، ابتداءً من بيرم التونسى وصلاح جاهين وفؤاد حداد، وعبدالرحمن الأبنودى وجمال بخيت، إلى هشام الجخ والشعراء الحاليين، استطاعوا أن يخطفوا الجمهور من الشعر الفصيح، ويصبح مستمعوهم بالآلاف والملايين.

■ بداية.. كيف ترى حركة النقد فى مصر والوطن العربى؟
- الفكر النقدى ليس أمرًا سهلًا، وإنما هو محصلة الخبرة العميقة بالفن، والتطورات الثقافية العالمية، والوعى المستوعب للإنتاج الفكرى والأدبى، وموقعه من خارطة الإنتاج الإنسانى، فالنقد يتضمن أمرين على جانب كبير من الأهمية، الأول ارتباطه بمنظومة العلوم الإنسانية المعاصرة، والثانى ارتباطه بالتطور العميق فى علوم اللغة وما يتصل بها، وعلوم النفس، والتطور فى نظريات الفلسفة وعلم الجمال والبلاغة الحديثة، وعلوم الاتصال الحديثة، إضافة إلى معرفة الفنون والآداب فى حركتها المذهلة، والإحاطة بالإنتاج المحلى والإنسانى، والبصر والخبرة بالتاريخ الثقافى الأدبى والعربى وعلاقاته بالآداب العالمية.
■ ما الأدوات التى يحتاجها الناقد؟
- الناقد لا بد أن يملك الموضوعية، إلى جانب العلم والمعرفة والنزاهة والحياد، كى لا يحكم على ما يجهل، وبالتالى نجد أن الآداب العربية فى القرن العشرين مرت بفترة نهضة عظيمة عبر ثلاثة أجيال، منذ الجيل الأول والجيل الثانى إلى الثالث، وهذا التاريخ حقق شيئًا من التراكم.
ولا بد لناقد اليوم أن يمتلك أمرين على جانب كبير من الأهمية، هما المعرفة الدقيقة والمستوعبة الإنتاج الأدبى فى الفنون المختلفة، وإتقان واحدة من اللغات الأجنبية على الأقل، كى يحيط بالتيارات العالمية.
والجامعات المصرية منذ عدة عقود لا توفد بعثات، ولا تشكل أو تدرب أساتذة خبراء فى اللغات الأجنبية بالشكل الكافى، ومعظم النقاد الشباب الآن لا يجيدون غير اللغة العربية، وهى لا تكفى على الاطلاق، لأن معظم النظريات العلمية الجديدة فى العلوم والفنون إنتاج إنسانى وليس عربيًا، فلا بد من وجود أداة للاطلاع عليها، ومن لا يملك هذه الأداة بصفة مباشرة، لا يستطيع أن يفهمها أو أن يطبقها.
■ لدينا العديد من النقاد.. فى رأيك مَنْ هم أفضل النقاد الحاليين؟
- فى حركة النقد المشرقية، كان لدينا عدد كبير من كبار النقاد، بدءًا من طه حسين، وأحمد أمين، وزكى مبارك، ثم الجيل التالى محمد مندور، ولويس عوض، وعلى الراعى، وعبدالقادر القط، وعزالدين إسماعيل، ثم الجيل الثالث الذى أنتمى إليه، وجيل الشباب الذى يحاول أن يستمر فى نفس الخط.
والأدب المغربى الذى كان «فرانكفونيًا» فى وقت من الأوقات، وما زال يتقن اللغة الفرنسية، هو الأكثر اتصالًا والأكثر علاقة بالنقد العالمى، لذلك فحركة الترجمة لديهم أنشط، وفى الآونة الأخيرة تقدموا نسبيًا على جيل الشباب والنقاد المشارقة. وكل جيل يفرز نقاده، ومصر على وجه التحديد فيها مواهب إبداعية، لكن وسائل الإعلام لدينا لا تعطيهم الفرصة الكافية كى يقدموا إنتاجهم، وكان على الراعى منذ ٤٠ عامًا يقول إن لدينا مجاعة نقدية، وما زلت أعتقد أن المجاعة لم تنته بعد، بل تتزايد، لأن عدد المبدعين يتكاثر، وليس لدينا عدد من النقاد يستطيع أن يغطى أعمالهم بطريقة منهجية وعلمية مضبوطة.
■ البعض يرى أنك تهتم بالروائيين أكثر من الشعر.. فهل تؤمن بأن «الرواية هى ديوان العرب»؟
- لا على الإطلاق، فأنا ضد هذه المقولة وناقشتها كثيرًا، وفى بداية كتاباتى الصحفية كنت أوازن دائمًا بمقال عن الشعر ومقال عن الرواية، وكنت أجد روايات كثيرة أختار منها، لكن قليلًا ما وجدت دواوين الشعر التى تستحق التناول.
لكن عندما بدأت منذ ١٢ عامًا فى الاشتراك ببرنامج «أمير الشعراء»، وجدت أن هناك مئات من الشعراء العرب من الشباب يستحقون العناية والدراسة والتوجيه، وعبر ٨ مواسم استطعت أن أقوم بدور النقد تجاههم، ربما كان هذا البرنامج هو الذى أشبع طموحى ورغبتى فى تشجيع الشعراء فاكتفيت به، وأخذت أركز كتاباتى على الرواية الصحفية، خاصة على رواية المقالات الصحفية.
وقد عدت أخيرًا إلى قضية الشعر كى أسال عنها، وعن أسباب عزوف الجمهور عن الشعر، وأسباب عزوف الناشرين عن نشر الدواوين، وأسباب التوتر والاضطراب الذى نشأ فى الساحة الشعرية.
■ إلى أى مدى ترى خطورة تغول الرواية على حساب الشعر خاصة أن معايير الكتابة الروائية تغيرت وأصبح الجميع يكتب؟
- الكتابة الإبداعية مثل الأنابيب المستطرقة، والازدهار الذى يحدث فى الرواية والقصة يعكس اهتمامًا بالخيال، وعناية باللغة وقدرة على الخلق، ومهارة فى التعبير، وقدرات فنية وتقنية فى السرد.
وعندما نمدح أجمل الروايات نقول إنها ذات شعرية راقية عالية، فمفهوم الشعر لا يقتصر على المنظومات ولا القصائد ولا الدواوين، وإنما هو ذروة الإبداع فى الأدب، ولذلك فإن الأجناس الأدبية ليست بمجموعة من الورثة يتنازعون على قطعة أرض، ولكنها مجموعة من الطاقات الإبداعية الخلاقة، التى ترتفع بمستوى الفن إلى آفاق عالية، وكلما ازدهر قطاع منها ألقى أضواءه وجذب نظائره ورشح بقية الفنون إلى الازدهار، لأن الجمهور الذى يستمتع بالرواية جيدًا ويتقن متابعة عوالمها الغنية، مؤهل إلى الاستمتاع بديوان شعر أو بمسرحية، أو بمقالة نقدية، أو بمجموعة قصصية.
والقارئ إذا جذبه لون من ألوان الفنون الأدبية واللغوية، فإنه يصبح مهيًأ لاكتساب ثقافة ووعى جمالى يقربه كثيرًا من الفنون الأخرى، فازدهار فن لا يقوم على حساب فن آخر، على الإطلاق، بل على العكس يؤدى ذلك إلى ازدهار الفنون الأخرى.
وأعتقد أن الكتابة بمختلف مستوياتها لا يمكن أن تكون سلبية أو سيئة، لأن الكم الوفير يفرز كيفًا وفيرًا، فوجود كيلو من اللبن يفرز قطعة صغيرة من الزبد، وبالتالى الكثرة ليست عيبًا، فالعيب أن تختلف المعايير وتستوى المقاييس، ولا يعرف القارئ الجيد من الردىء، وهذه هى الوظيفة النقدية، فكلما كثر الإنتاج اشتدت الحاجة إلى الوعى النقدى البصير، الذى يميز بين المستويات، وإذا كان القراء بطبيعتهم يقومون على المدى الطويل بهذا الدور، فمن بين ١٠٠ كتاب يصدر لا يبقى فى ذاكرة الأدب ولا فى تاريخه ولا فى وجدان الدارسين له سوى ١٠٪ فقط، والزمن أيضًا يقوم بدور نقدى هائل جدًا وهو «التصفية»، وأنا ممن يؤمنون بأنه لا يصح إلا الصحيح، وبأن ما ينفع الناس هو الذى يمكث فى الأرض.
■ يرى البعض أن علاقاتك بدول الخليج أسهمت فى وجودك على قمة الهرم الثقافى والنقدى؟
- لا أعتقد أن هناك هرمًا ثقافيًا أو أننى أجلس على قمته، فكل ما هناك هو أن مصر هى التى افتتحت عصر النهضة العربية، وهى التى جسدت الريادة الحقيقية، ليس فى الثقافة والفنون فحسب، لكن فى بناء الدول الوطنية واستقلالها، وفى الجامعات والتعليم، والنظم الحكومية، لأن مصر صاحبة حضارة عظيمة، فاستطاعت بجوار مجموعة صغيرة من الدول مثل العراق وبعض دول الشام أن تقود حركة النهضة.
وكانت هذه القيادة تعنى أن يأتى العرب إلى مصر، فيتعلمون فى جامعاتها ويدرسون فى مدارسها ويقرأون فى صحفها، فكانت مجلة الرسالة مثلًا تذهب بالسفن إلى بعض دول الخليج، وينتظرها الكتاب والشعراء والمثقفون فى طوابير بالميناء، وهذا الدور القيادى عندما انتشر فى الجامعات والمراكز الثقافية العربية تمثل فى الاستعانة ببعض الشخصيات المصرية التى رأى الجمهور العربى أنها تختزن الخبرة المصرية وتمثل الوعى الثقافى العربى، فأساتذة الجامعات المصرية هم من افتتح الجامعات العربية.
بالتالى فإن كبار العلماء والمثقفين والأدباء هم الذين يدعون لقيادة الحركة الناهضة فى البلاد العربية الأخرى، وربما أتاحت وسائل الميديا الحديثة لمثلى أن يكون له دور بارز، خاصة أننى أنتجت ٤٠ كتابًا، ولم تعطنى هذه الكتب شهرة فى العالم العربى مثلما أعطانى برنامج تليفزيونى واحد هو برنامج «أمير الشعراء» وهذا ليس تجنيًا على أحد أو اعتداء على حقوق الآخرين، بل هو ببساطة استمرار للدور الريادى المصرى.
■ كيف ترى حركة الشعر الحالية؟ وماذا عن الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى؟
- أحمد عبدالمعطى حجازى قام بدوره التاريخى العظيم، لكنه الآن، بطبيعة الحال، بلغ مرحلة لم يعد عطاؤه الشعرى فى أحسن أحواله، ولا ألومه على ذلك، كما لا أنتظر أن يظل الإنسان شابًا طول عمره، وهذا قانون الحياة الذى يجب أن أحترمه، وبالتالى بعد أحمد عبدالمعطى حجازى وصلاح عبدالصبور برز أمل دنقل بروزًا عظيمًا، ثم جاء محمد إبراهيم أبوسنة، وجاء فاروق شوشة.
وفى سبعينيات القرن الماضى، ظهرت لدينا كوكبة من أجمل الشعراء، ومن بينهم رفعت سلام، وحلمى سالم، وعبدالمنعم رمضان وآخرون من شعراء النثر فيهم نجوم وشعراء من الدرجة الأولى، وما نبحث عنه هو المصالحة بين الفرق الشعرية المتعددة، لكى يمارسوا نوعًا من التعايش السلمى بينهم، ولا يهدمون بعضهم البعض.
كما نبحث عن المصالحة بين من يكتبون الشعر الآن وبين الجمهور الذى هجره، والمصالحة بينهم وبين الناشرين الذين لم يعودوا يهتمون بالنشر لهم، والمصالحة بينهم وبين مناهج التعليم، التى لم تعد تعنى بهم، والمصالحة بينهم وبين أدوات الإعلام التى تتجاهلهم.
ولا أعرف إذا دعوت إلى مد الجسور بهذا الشكل هل أكون مخطئًا ومتجنيًا أو جاهلًا أم أقوم بدور ثقافى ونقدى جيد؟، وأنا لا أعرف كيف يغضب منى هؤلاء الشعراء، عندما أدعو إلى هذه الأشياء وأدعو ألا يحتقروا الجمهور، كما يفعلون دائمًا، وأدعو إلى أن يعودوا إلى التعبير عن ذواتهم وعن ضمائر الجماعات التى يمثلونها والشعب الذى خرجوا منه، فمن الذى يكتب لنا اليوم قصيدة تعبر عن أحاسيس الناس فى المواقف المختلفة؟.
وأعتقد أن شعراء العامية أذكى من شعراء القصيدة الفصحى، لأنهم الآن ابتداء من بيرم التونسى وصلاح جاهين وفؤاد حداد، وعبدالرحمن الأبنودى وجمال بخيت، إلى هشام الجخ والشعراء الحاليين، استطاعوا أن يخطفوا الجمهور من الشعر الفصيح، ويصبح مستمعوهم بالآلاف والملايين. والبرنامج الذى يعاب على أننى أشترك فيه، يقوم بهذه المهمة، فعندما أعرف مثلًا أن الحلقة الختامية من كل موسم من مواسم أمير الشعراء يشاهدها من بداياتها إلى نهايتها قرابة ٢٠ مليون مشاهد، أتساءل متى كان للشعراء ٢٠ مليون مشاهد يسمعون القصيدة ويعلقون عليها، ويشتركون فى مسابقة لإبداء آرائهم؟، ألا يعد ذلك جذبًا للشعر؟، أيستحق ذلك أن يلعن ويعتبر انحدارًا وتدهورًا، أم يعتبر شيوعًا للذائقة الشعرية بشكل ليس هو كل الأشكال بطبيعة الأحوال؟، وذلك لأن المشاركين يكتبون فى شكلين العمودى والتفعيلة، ولا يتضمن ذلك قصيدة النثر، لكن لا يعد ذلك جريمة كما يقولون.
■ ما موقفك من شعر أدونيس؟
- كتبت عنه كثيرًا وأقدره جدًا كشاعر عظيم، ومن أعظم شعراء اللغة العربية المعاصرين، لكن مشكلته أنه قاد الناس أو فرقة من الشعراء إلى منطقة احتقار الجمهور، والولع بقصيدة النثر وترك قصيدة التفعيلة، وإلى بعض الأفكار الأخرى التى أغوت الكثير من الشباب الذين لا يرون إلا نفسهم ولا يعترفون إلا بإبداعهم.
وفى آخر زيارة له فى مصر قال «أدونيس» إن العقل العربى لم ينجب فكرًا نقديًا جوهريًا منذ عبدالقاهر الجرجانى، فى القرن الرابع الهجرى حتى الآن، والحكم بفقر العقل العربى خلال ١٠٠٠ عام تجن شديد وتجاهل لا يمكن إقراره لحركة النقد العربى.
■ هل فكرت فى كتابة سيرتك الذاتية كاملة؟
- كتبت جزءًا منها ونشرته فى كتاب بعنوان «عين النقد»، وهو جزء من سيرتى الذاتية، وأكتب حاليًا الجزء الثانى، وأعمل على نشره تباعًا فى بعض المجلات العربية، والآن أعمل على المتابعة النقدية للإبداع الذى يروقنى، ويصدر لى كتاب جديد بعنوان «شاعر العامية»، وهذا أول كتاب يصدره ناقد ينتمى إلى مجمع اللغة العربية يعترف فيه بشعر العامية، وهناك مجموعة من الكتب الأخرى يعاد طبعها الآن، كما أجمع المقالات والأبحاث التى أكتبها عادة فى كتب بعد ذلك، لأننى لا أكتب ثرثرة صحفية، بل أكتب مقالات صالحة لأن تكون فصولًا فى كتب.