رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"سلطان الألحان والأحزان".. حكايات تنشر لأول مرة عن بليغ حمدى فى ذكراه

جريدة الدستور

السيرة أطول من العمر، وفى حالة صاحب «سيرة الحب» فإن ذكره وذكراه تظل باقية حية ما بقى الحب فى الأرض. لا يتوقف بليغ حمدى عن إدهاشنا بألحانه المتوهجة المتجددة، التى يزيدها الزمن حضورًا ورسوخًا فى القلوب، ولا يزال قادرًا كذلك على إدهاشنا بحكاياته، التى لا تنتهى، والتى تظن معها أنه عاش ألف عام. وهذه ثلاث حكايات جديدة عن بليغ حمدى، تنشر لأول مرة نستعيد فيها سيرة أمل مصر فى الموسيقى فى ذكرى رحيله «١٢ سبتمبر ١٩٩٣».

«بلبل» يخسر مليون جنيه وثروة فنية لا تقدر بثمن بسبب أغانى أحمد عدوية
المتداول عن بليغ حمدى أنه عاش أصعب يوم فى حياته حين ماتت أمه «ماما عيشة» وكان يحبها بجنون ومتعلقًا بها كطفل، وأنه لم يبك أبدًا إلا وهو يودعها.. لكن هناك موقفًا آخر لم يكتف فيه بليغ بالدموع الساخنة بل «لطم» من شدة الفجيعة.
فعندما ماتت أم كلثوم فى فبراير ١٩٧٥ تذكر بليغ أن لديه «كنزًا» يخص سيدة الغناء العربى، وهو بروفات الأغانى الاثنتى عشرة التى لحنها لها، من «حب إيه» عام ١٩٥٩ وحتى «حكم علينا الهوى» عام ١٩٧٢، مرورًا بـ«أنا وإنت ظلمنا الحب، أنساك، سيرة الحب، كل ليلة وكل يوم، بعيد عنك، فات الميعاد، إنّا فدائيون، ألف ليلة وليلة، الحب كله».
أم كلثوم تغنى على عود بليغ حمدى وبمصاحبته وبعقلية التاجر الشاطر تحمس مجدى العمروسى، دينامو شركة «صوت الفن» وعقلها المدبر للفكرة، كان يعرف أن الجمهور متلهف على أى «حاجة جديدة» تخص فقيدة الغناء، فما بالك ببروفات من السلطنة تجمعها ببليغ حمدى ملحن أجمل أغانيها فى سنواتها الأخيرة، إن إصدارها فى شرائط كاسيت سيكون حدثًا ستتلهف عليه الجماهير وسيجنى من ورائه أرباحًا طائلة.
وعرض العمروسى على بليغ مليون جنيه نظير هذه الشرائط، وهو مبلغ مهول بأرقام تلك الأيام، ووجد بليغ نفسه على مشارف تحقيق أهم أحلامه: إنشاء استديو صوت مجهز بأحدث التقنيات ينافس تلك التى يسافر للتسجيل فيها فى أثينا وبيروت، فلماذا لا يكون فى مصر استديو بتلك المواصفات؟.
وأسرع بليغ إلى مكتبه بشارع بهجت على بالزمالك، الذى يقع خلف فيلا أم كلثوم وعلى بعد خطوات منها، وكان قد استأجره خصيصًا ليكون قريبًا منها ولا يتأخر عن مواعيد بروفاته معها، ومن مكتبة الشرائط المتخمة استخرج شرائطه مع أم كلثوم، فقد كان يضعها فى مكان مميز فى القلب منها وفى جهاز الكاسيت راح يدير الشريط الأول ليتأكد من جودته، فإذا بصوت أحمد عدوية ينطلق منه.
أدار شريطًا ثانيًا وثالثًا وعاشرًا حتى وصل للأخير فإذا جميعها مسجلة عليها أغانٍ للمطرب الشعبى الجديد، الذى أصبح حديث مصر وقتها، صرخ بليغ مناديًا على سائقه، الذى كان يسمح له بالمبيت فى المكتب فجاء مسرعًا، وما هى إلا دقائق معدودة حتى انكشف اللغز واتضحت الكارثة، التى جعلت الدموع تفر من عينى بليغ ساخنة ويكاد يلطم من هولها.
كان سعيد سائق بليغ قد طلب منه قبل أيام شرائط كاسيت يسجل عليها أغانى عدوية الجديدة، قال له بليغ ببساطة: عندك الشرايط خد اللى إنت عايزه، وأراد سعيد بحسن نية قاتلة أن يوفر على «الأستاذ» الشرائط الجديدة الخالية فقرر أن يسجل على تلك المستعملة، ولم يكن يدرى وهو يختار - بجهل- شرائط بروفات بليغ وأم كلثوم ليسجل عليها أغانى عدوية، أنه يمحو من الوجود كنزًا لا يقدر بثمن، وأنه أضاع على بليغ مليون جنيه كانت بانتظاره وبدد حلمه الجميل، الذى كان على وشك أن يمسكه بيده.
اكتفى بليغ بدموعه وحسرته ولم يكن فى استطاعته أن يعاقب سائقه، فقد كان على يقين أنه فعل ما فعل بحسن نية، ثم إنه خدمه بإخلاص سنوات طويلة، وكان يتولى لسنوات مهمة توصيل «هيثم وتامر» ابنى شقيقه الراحل حسام إلى مدرستيهما ولم يتأخر يومًا، وكان يعتبره من «أهل البيت» بحكم أنه كان متزوجًا من أقرب شغالات «وردة»– زوجة بليغ حينها- إلى قلبها.. بالمناسبة كانت وردة تتعمد أن تختار شغالاتها بالاسم، فكان لديها «صباح» و«نجاة» و«شادية» على أسماء أبرز منافساتها فى الساحة الغنائية وقتها.. كنوع من كيد النسا.
أما السائق المسكين «وكان فى الأربعين من عمره» فلم يستطع قلبه أن يتحمل دموع بليغ وحسرته، فمات بعدها بأيام.

سعاد.. المرأة التى لم يكن يجرؤ أن يقول لها «لا» أبدًا


مثلما كانت هناك «سعاد» فى حياة وقلب صديقه عبدالحليم حافظ كانت هناك «سعاد» أيضا فى حياة وقلب بليغ حمدى، الفارق أن سعاد حسنى كانت هى الحبيبة الفاتنة لحليم، أما «سعاد» الأخرى فكانت هى الأم البديلة لبليغ إذا جاز التعبير.
«سعاد» بليغ كانت مساعدة لأمه فى شغل البيت، كانت تكبر شقيقته صفية بسنوات قليلة، وهى– سعاد- التى تولت تربية بليغ، فشب أمام عينيها يومًا بيوم، كانت هى المسئولة عن خدمته، طعامه وشرابه وتنظيف غرفته وغسيل ملابسه.. كانت سيدة سمراء طيبة، اعتبرتها– ماما عيشة- فردًا من الأسرة بحكم العشرة الطويلة.
وقبل رحيل والدة بليغ أوصته خيرًا بسعاد، فظل طوال عمرها يحرص على إنفاذ «الوصية المقدسة»، فكانت سعاد هى المرأة الوحيدة تقريبًا التى يتلقى منها بليغ الأوامر دون أن يغضب، كانت «تشخط» فيه كثيرًا فيقبل منها كل تصرفاتها بابتسامة، لأنه يدرك محبتها له وخوفها عليه بصدق.
عندما تعرض بليغ لمحنته الكبرى فيما عُرف باسم قضية سميرة مليان، تلك الفتاة المغربية الغامضة، التى انتحرت من شقته وسببت له من الأذى ما أفسد عليه حياته بل دمرها، لم تستطع «سعاد» أن تتحمل آلام بليغ، فذهبت إلى وكيل النيابة، الذى يحقق فى القضية تعترف أمامه بأنها المسئولة عن الحادث، وتطلب منه أن يوجه إليها هى الاتهامات ويعفى بليغ، راضية بأى حكم ولو كان السجن المؤبد، ولكن وكيل النيابة صرفها دون أن يأخذ أقوالها أو يفتح تحقيقًا معها لفرط سذاجتها.
وكان من أشد منغصات حياة بليغ فى الغربة، بعد أن اضطر للخروج من مصر فى تغريبته، التى استمرت منذ صدور حكم غيابى بسجنه عام ١٩٨٦ وحتى قبول النقض وحصوله على البراءة فى ١٩٩٠، أنه حُرم من أكل سعاد، فقد كان له طعم لم يصادف له شبيهًا حتى فى أفخم المطاعم الباريسية.
وحتى وهو فى محنة الغربة كان حريصًا على أن يطمئن على سعاد من شقيقته صفية التى أخذتها لتعيش معها، والمدهش أن بليغ حلم برحيلها واستيقظ من نومه مذعورًا واتصل بصفية فعرف منها أنها رحلت منذ ساعة.
الحكاية سمعتها من محسن خطاب أقرب أصدقاء بليغ فى سنوات إقامته فى باريس، وكان المطعم الذى يمتلكه فى العاصمة الفرنسية هو مكان بليغ المفضل، ونقل إليه البيانو والعود، ولحن فيه أجمل ألحانه فى سنوات الغربة.
وطوال سنوات إقامته الإجبارية فى باريس، اعتاد بليغ حمدى أن يستضيف محسن ليقضى معه الويك إند، فبعد أن يغلق محسن أبواب مطعمه مساء السبت يتوجه فورًا إلى شقة بليغ، ولأن بليغ لا يستيقظ صباحًا أبدا فإن علامات الدهشة ارتسمت على وجه محسن فى ذلك اليوم حين أيقظه بليغ فى الثامنة صباحًا، وفتح عينيه على طلب غريب: إصحى يا محسن اطلب لى صفية «شقيقة بليغ فى القاهرة».
ولأن حالة بليغ المزاجية كانت تبدو عصبية فإن محسن لم يشأ أن يجادله أو يسأله عن سر تلك المكالمة غير المعتادة، ولما جاء صوت صفية من القاهرة سألها بليغ مباشرة وبدون سلامات: هى ماتت؟، ولما جاءه الجواب بالإيجاب عاد يوجه لها سؤالًا أكثر غموضًا: ماتت من نص ساعة مش كده؟.. ولما جاءه الجواب بالإيجاب كذلك قال لها بحسم: اعملوا لها اللازم ما تخليش أسرتها عايزين حاجة.
وعاد بليغ ليكمل نومه الذى قطعه بتلك المكالمة الغريبة، وفى المساء أدرك محسن سرها: إن بليغ يمتلك حاسة سادسة مدهشة، وكانت مكالمته بخصوص تلك السيدة الطيبة التى عملت سنوات طويلة فى خدمة عائلة بليغ «سعاد»، وكانت أهم من أن تصفها بوصف «شغالة»، فقد كان بليغ يعتبرها من «بقية أسرته»، وحدث أن تعرضت لأزمة صحية أثناء إقامة بليغ فى باريس، فكان يتابع حالتها مع صفية يوميًا ويطمئن عليها، وفى تلك الساعة المبكرة من ذلك الصباح أيقظه هاتف من منامه، كان على يقين أنها ماتت، ومن نصف ساعة بالضبط.

قصة الضابط الفرنسى الذى بكى حزنًا على رحيل «الموسيقار العظيم»


عندما جاء محسن خطاب فى زيارة للقاهرة فى شتاء هذا العام وجهت له دعوة لحضور العرض المسرحى «سيرة حب» المستوحى من سيرة بليغ، وعقب العرض وجدته ينتحى بى جانبًا ويسألنى فى فضول: إنت جبت حكاية الضابط الفرنسى دى منين وعرفتها إزاى؟.
وكان يقصد بالطبع المشهد الأول فى المسرحية التى تشرفت بكتابتها، وفيه يتعرض بليغ لموقف محرج عندما يحاول ضابط فرنسى إلقاء القبض عليه، ظنًا أنه مهاجر مخالف لقوانين الإقامة، أجبت محسن بلا تردد بأنه موقف تخيلته لأوضح عبره المعنى الذى قصدته، وهو حجم المعاناة التى عاشها فى الغربة وهو الفنان المبدع الذى غيّر خريطة الموسيقى فى العالم العربى.
هتف محسن: ولكن الواقعة حقيقية وهذا الضابط صار من أقرب أصدقاء بليغ.
وهتفت أنا: احكِ لى التفاصيل من فضلك. وحكى محسن خطاب: فى ليلة جاء بليغ إلى المطعم، وكان يلحن وقتها أغنية «بودعك»، وبليغ هو الذى كتب كلماتها، ونسبها بكرمه إلى صديقه الشاعر الخليجى منصور الشادى، المهم أن بليغ اندمج فى اللحن شوية على البيانو وشوية على العود، ونسى نفسه ونسى الوقت كالعادة، ولم أشأ أن أقطع اندماجه فتركته ونمت بجواره فى المطعم، وصحيت على دوشة.
دخل المطعم ضابط فرنسى ومعه دورية، القانون هناك يمنع أى مطعم من أن يضىء أنواره بعد الثانية ليلا، دخلوا ليحرروا محضرًا فوجدوا بليغ مندمجًا فى اللحن، شرحت لهم أنه ملحن مصرى شهير، وأن الإلهام جاءه فى تلك الساعة المتأخرة فلم أستطع إطفاء أنوار المطعم، تعاطف الضابط مع الموقف، عرفت أن اسمه «آلان»، وجلس معنا ليستمع إلى اللحن واندمج هو الآخر وغنى له بليغ مجموعة من أجمل ألحانه، وظلت السهرة حتى السادسة صباحا.
من حينها أصبح «آلان» صديقًا لبليغ، وكان يمر ليسلم عليه فى المطعم، وحصل مرة أن كان المطر شديدًا وخفت أن يعود بليغ إلى شقته فى هذا الجو العاصف فأخذته ليبيت عندى فى بيتى القريب ولم تكن معى سيارتى، فوقفنا ننتظر سيارة تاكسى وطال انتظارنا وفوجئنا بسيارة بوليس تتوقف أمامنا وأشار لنا الضابط بالركوب، وخاف بليغ أن يأخذوه إلى قسم الشرطة، وفوجئنا بأنه «آلان» وقام بتوصيلنا إلى البيت فى سيارة الشرطة.
ولما عرف «آلان» بخبر موت بليغ جاء يعزينى، وكان متأثرًا بشدة والدموع فى عينيه حزنًا على صديقه الموسيقار المصرى، الذى جاء يومًا ليقبض عليه فصفق له إعجابًا بألحانه التى هزت قلبه وهو لا يفهم كلمة واحدة من اللغة العربية.