رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فتنة الهلال السنى!!


ما قامت به جماعة الإخوان طوال العام الماضى وفى كل مسيرة الدستور البائس كان يصب فى تنفيذ هذا المخطط الشيطانى، ويجىء اليوم حزب «النور» فى محاولة إنتاج الأزمة وتبنى هذا الطرح مرة أخرى، وصولاً إلى إنتاج وتشكيل الهلال السنى الذى يخدم المصالح الأمريكية.

المادة «219» فى الدستور الذى تعكف لجنة الخمسين على تعديله الآن، تنص على «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، فى مذاهب أهل السنة والجماعة»، وهذه المادة كانت عنواناً لحرب خاضتها الأحزاب التى أسمت نفسها إسلامية، ومارست جميع أنواع الابتزاز السياسى طوال مرحلة كتابة الدستور وقت حكم الإخوان وبدلت الأقنعة كثيراً ما بينها وبين بعضها خداعاً للجمهور، فظهر الإخوان فى مواقف ودخل النور فى مواقف أخرى وصنعت حالة من الجدل المزيف الذى كان عنواناً للمرحلة بكاملها، وكان ختام المشهد المؤلم والصادم عندما ظهر السيد ياسر برهامى فى التسجيل الشهير للقائه بقادة الحركة السلفية يشرح كيف قاموا داخل لجنة الدستور بممارسة الخداع وكيف تآمروا لتمرير هذا النص، ومن تفصيلات التآمر وقتها على لسانه أن النص وضع كخطوة أولى سيتبعها خطوات أخرى أثناء استصدار القوانين فى مجلس الشعب بناء على هذا النص الدستورى الحاكم.

وبدأ مصطلح جديد يظهر على الساحة ويتداول بقوة يسمى «الهوية» واعتبرت تلك المادة والمادة الثانية هى مواد الحفاظ على الهوية، وكأن مصر كانت تعانى أزمة هوية، وهو أمر مغلوط جملة وتفصيلاً بتفسير الأمر بالتفسير البرىء، لكن ما ظهر بعد ذلك اتضح أنه تفسير سطحى لهذا الطرح الذى تم الإلحاح عليه طوال فترة وضع الدستور.

الهوية المصرية فى إجمالها لم تكن فى مأزق ما طوال عهدها الحديث أو القديم فقد تعاملت الأمة المصرية فى مراحلها المتعاقبة مع الأمر برسوخ حقيقى لم يهتز، وما يعنينا فى هذا السياق الذى يبدو طويلاً هو محطته الأخيرة وهى دخول الإسلام إلى مصر وبدأ تشكلها كإحدى الولايات الإسلامية حيناً أو دولة مصرية إسلامية مستقلة حيناً آخر، فمنذ ذلك الوقت الطويل الذى استمر طويلاً حتى وصل إلى العشرة قرون ويزيد كانت ملامح هذا الوطن عصية على مسألة مشكلة الهوية، فالتجانس السكانى لم يحدث عليه أى متغير فارق يمكن أن يؤثر فى هذا الأمر ففى وقت كونها إحدى ولايات إمبراطورية إسلامية كانت تحتفظ بحدود تشبه كثيراً الحدود التى تقع فيها الآن، وفى وقت خروجها من هذه الإمبراطوريات الإسلامية لتؤسس هى إمبراطوريتها المستقلة وتصبح القاهرة عاصمة للإمبراطورية تتمدد قليلاً لتشمل فى أفضل أوضاعها السودان وليبيا و بعض مناطق الشام.

كانت حصيلة هذا التقلب فى المحطات التاريخية الحديثة هوية مصرية إسلامية لها الكثير من الارتباطات بدولتها وحضارتها الفرعونية القديمة، وظل هذا الارتباط فى صورته الصحية لم يسبب لها أزمة ولم يخلق خللاً ما فى تعاطيها مع المتغيرات التى تمر حولها أو فيها، ومن ناحية المذهب داخل الهوية الإسلامية بدت أيضاً فى أعلى درجات الاتزان بشيوع المذهب السنى الوسطى الرحب واكتساحه التام لكل من اعتنق الدين الإسلامى منذ وصوله إلى أرض المحروسة، لم يتزحزح هذا الاكتساح طوال أربعة عشر قرناً ولم يدخل فى اختبارات فارقة مثلما حدث فى شرق الإمبراطورية الإسلامية التى كانت نهباً لصراع المذاهب والفرق، حتى فى الفترة العارضة التى دخلت إلى مصر الدولة الفاطمية ذات المذهب الشيعى كان التعاطى المصرى مع الأمر بنوع من الرزانة الحضارية، فهى لم تعاد هذا المذهب وتقبلت سماته طوال فترة حكم الدولة الفاطمية وتجاوزته بسهولة بعد انقضاء هذا الحكم ودخول الدولة الأيوبية بعده، وبقى من هذا المذهب بعض الممارسات والارتباطات الخاصة بأهل البيت.

وعاشت مصر مع محطتها التاريخية الأخيرة والأحدث مع المستعمر الأجنبى «فرنسى ـ بريطانى» بصورة لم تهز هويتها مطلقاً، وظل هاجس التحرر الوطنى هو محركها طوال سنين الاستعمار، وهو ما استدعى التمسك الفطرى بهويتها كسلاح فى مواجهة الأجنبى، وبوصولها إلى محطة التحرر فى أواسط القرن الماضى خرجت متماسكة بهويتها المصرية الإسلامية والتى امتزجت مع واقعها الحديث فيضاف إليها العربية، وتضم داخلها أكبر نسيج مسيحى فى الشرق كله بنوع متقدم من الرحابة والانصهار، وظل ارتباطها بتاريخها الفرعونى حاضراً بصورته الصحية التى لا تتجاوز الفخر والعادات دون أى أثر سلبى فى مسألة الهوية.

فى هذا الاختصار الشديد عبرت مصر محطات تاريخها بخطوات متزنة متماسكة دخلت الطريق وخرجت منه عافية لا تعانى مشكلات عميقة أصابت مجتمعات أخرى غيرها، ولذلك جاء الحديث اليوم عن الحفاظ على الهوية مثيراً للدهشة والريب، فالذى يطرحه يتحدث عن أزمة غير موجودة، لذلك ظهر التدليس فى الأمر واضحاً للعيان وصار الشك بالفعل فى محله حول من يطرح التمسك بالهوية التى تجاوزها المجتمع فى حواره مع نفسه أيام الاستعمار الأجنبى.

فى عام واحد فقط تكشفت الخيوط حول من يريد الزج بصيغة «أهل السنة» فى متن الدستور المصرى بلا مبرر ومن يضيق ويختزل فى قضية لا تشغل أحداً بالأساس، فقد كان التيار السياسى المتأسلم فى بعض منه الإخوان المسلمين وفى جزء منه السلفيون قد أجروا اتفاقات سرية من أسفل المائدة مع الغرب ممثلاً فى الولايات المتحدة الأمريكية، تنص فى مجملها حول دعم وصولهم للحكم فى مصر بعد ثورة يناير فى مقابل قيام هذا التيار بخلق ما يسمى بـ «الهلال السنى»، وهذا طرح أمريكى صهيونى تمت دراسته والوصول إليه كحل يفجر المنطقة العربية من داخلها فى صراع مذهبى، واحتاج هذا الطرح لمن يتبناه من داخل مصر وتقدم التيار المتأسلم ليتولى هذا الأمر من خلال ترويجه للحفاظ على الشريعة الإسلامية كخطوة أولى، وتعقبها خطوات فى مسألة الشق المذهبى واستدعاء محطات تاريخية من صفحات الفتنة الكبرى.

ما قامت به جماعة الإخوان طوال العام الماضى وفى كل مسيرة الدستور البائس كان يصب فى تنفيذ هذا المخطط الشيطانى، ويجىء اليوم حزب «النور» فى محاولة إنتاج الأزمة وتبنى هذا الطرح مرة أخرى، وصولاً إلى إنتاج وتشكيل الهلال السنى الذى يخدم المصالح الأمريكية و الإسرائيلية بشكل مباشر، لأنه فضلاً عن تفجير واستنزاف المنطقة من الداخل، فهو سلاح يتم إعداده للدخول على إيران فى المعركة القادمة.

حالة المادة «219» المشبوهة تتكشف بوضوح وتبديل الأقنعة التى يمارسها الإخوان والسلفيون منكشفة للكل، وأبعادها سياسية تآمرية بوضوح ولا علاقة لها بالنواحى الدينية مطلقاً، فهى مادة تفجير تماماً كالعبوات المفخخة التى يتم دسها فى الأماكن المظلمة بليل.

■ كاتب ومحلل سياسى