رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لجأت إلى أسلوب «الخدعة» حين تقدمت فى مشوار الكتابة

إبراهيم عبدالمجيد: أتوحّد مع رواياتى لدرجة النداء على زوجتى باسم إحدى الشخصيات

جريدة الدستور


تستطيع أن تصف الروائى الكبير إبراهيم عبدالمجيد بـ«دينامو الكتابة» الذى لا يتوقف أبدًا، والحكّاء القادر على إبهار واختطاف أذهان قرائه، ليصبحوا جزءًا من سطور أعماله، فيروا فيها أنفسهم ويروا العالم من خلالها. ويرى «عبدالمجيد»، فى حواره مع «الدستور»، أن روايته الأخيرة «السايكلوب»، الصادرة عن دار مسكيليانى التونسية للنشر، تجسيد لفكرة الحيلة الفنية أو «الخدعة» فى الكتابة، كما تعكس فكرة أن يعيش الكاتب مع شخصياته الروائية فى حياته الواقعية، لدرجة أنه كان ينادى زوجته باسم إحدى الشخصيات فى أعماله، ويرتدى بالطو فى فصل الصيف وهو يكتب عن أحداث فى الشتاء.

■ قلت إنك تقابل شخصيات رواياتك فى الطرقات.. ما حقيقة ذلك؟
- هذا شعور غالبًا ما يمر به الكاتب المتوحد مع شخصياته، وهو شعور قديم يمشى معى منذ بدأت الكتابة، ويزداد مع الزمن حين تزداد الحياة ضيقًا ولا تتسع إلا للقلم والأوراق، هنا تصبح الشخصيات الافتراضية أو الوهمية هى الحقيقة وغيرها هو الخداع، وتصبح العوالم والشخصيات هى الوطن والحقيقة حولنا هى المنفى.
وازداد هذا الإحساس لدىّ فى روايات مثل «لا أحد ينام فى الإسكندرية» و«هنا القاهرة» و«أداجيو» وغيرها، حتى كنت أنادى من حولى بأسماء شخصياتها.
■ هل انعكس ذلك على حياتك؟
- نعم بالطبع، أذكر أيام كنت أكتب «لا أحد ينام فى الإسكندرية» أنى كنت دائمًا أنادى «جرسون» كان يعمل فى مقهى زهرة البستان بـ«دميان»، وهو نفس الشخصية الموجودة فى الرواية.
وظللت سنوات أناديه بهذا الاسم، ويصحح لى اسمه كل مرة وأبتسم، لدرجة أننى نسيت اسمه الحقيقى ولا أذكره إلا بـ«دميان».
ومن نعم الله أن زوجتى الأولى رحمها الله والثانية أطال الله فى عمرها لم تستنكر أى منهما أننى أناديهما أحيانًا باسم شخصية فى رواية أكتبها أو أرتدى ونحن فى فصل الصيف بالطو ثم أخرج من البيت، فى الوقت الذى أكتب فيه فصلًا فى رواية فيه شتاء ومطر، لقد أدركتا أن هذه هى حياتى.
■ وهل تجلى ذلك فى روايتك الجديدة «السايكلوب»؟
- نعم، وتجسد فى شخصية الروائى «الخدعة» سامح عبدالخالق، الذى كتب ٢٩ حكاية فى رمضان عام ٢٠١١، وكانت تنشر فى كل يوم حكاية، ثم كتب الحكاية الثلاثين عن نفسه، وحين عاد إلى البيت وجد الـ٢٩ شخصية للحكايات السابقة تنتظره ساعة الإفطار.
والقارئ سيعرف بسهولة أن هذا الكاتب الروائى هو أنا، وأننى أقوم بذلك كحيلة فنية لأبرر كتابتى رواية بعض شخصياتها من الوهم.
وحكاية التوحد مع الشخصيات قديمة، ولأننى أعرف أن فى الكتابة علاجًا نفسيًا وظفتها الفكرة قديمة عندى لكنها لم تخرج فى رواية من قبل، وظهرت مع الكاتب «الخدعة» سامح عبدالخالق مرتين، مرة فى حكايات ساعة الإفطار فى رمضان، ومرة فى إحدى قصصه القصيرة التى جمع فيها النساء اللاتى أحبهن أصلًا فى الحياة، قبل أن يصبحن شخصيات فى قصصه ورواياته، وعاش معهن فى جزيرة نائية.
■ ماذا يعنى «السايكلوب»؟
- «السايكلوب» كائن خرافى ذو عين واحدة يأكل البشر، خدعه «يوليسيس» وفقأ عينه الوحيدة وهرب من الجزيرة إلى السفينة مع بحارته، وفق الأساطير اليونانية التى أنا واحد من المغرمين بها.
وبطلة الرواية مغرمة بروايات الرعب ومن قراء أحمد خالد توفيق، وتمتلك حساب «فيسبوك» عليه صورة «السايكلوب»، الذى تتمنى أن يكون لديها لتتخلص ممن لا تحب، والراوى الضمنى سعيد صابر يقول لها ضاحكًا: «لسنا فى حاجة إليه، فهو موجود».
وهناك من رأى ذلك «عجائبية» إبراهيم عبدالمجيد السارية معه فى كل رواياته، منذ رواية «المسافات» عام ١٩٨١، وهناك من رأى أن «السايكلوب» رمز لمن أربكونا ولا يرون الأمور بعينين اثنتين، ومن ثم يأتى الصراع غير الموضوعى، وهناك من رأى غير ذلك، وأنا سعيد باختلاف الآراء.
وعامة أحب الأساطير ولا شىء غيرها فى رواياتى دائمًا، ولا أبحث عن معنى بل يسعدنى تعدد المعانى والتفاسير، وهذا هو الأدب.
■ ماذا عن شخصيات الرواية؟
- هى ٤ شخصيات فقط.. الشخصية الرئيسة هى الراوى سعيد صابر وذكر فى رواية سابقة، وتقابله «سعدية» كشخصية رئيسة من الحياة الحقيقية حوله، إلى جانب سامح عبدالخالق الذى هو أنا، وهو يتصور أنه من يتحكم فى أفكار ورغبات سعيد صابر من بعيد، وصار شخصية ثانوية، لأن سعيد صابر يمارس حياته دون اهتمام بذلك ويتقدم فيها ويصنع عالمه الفنى كما يتصور.
■ لماذا استخدمت شخصيات رواياتك السابقة؟
- استخدمتها كحيلة فنية، لأن الكاتب حين يتقدم فى مشوار الكتابة، يستطيع أن يضرب بكثير من قوانينها وأعرافها عرض الحائط ويضع هو قوانين جديدة أو إضافية.
سامح عبدالخالق وهو الروائى الخدعة، حين اشتاق لسعيد صابر وهو شخصية فى رواية سابقة ووجده أمامه، فكر أن يكتب رواية عن هذه الحالة، لكنه فوجئ بـ«سعيد» يطالبه بأن يتركه هو ليكتب الرواية باعتباره كان شخصية لمخرج مسرحى مثقف وقارئ نهم للمسرح والرواية والشعر والأدب عمومًا، ووافقه وأخبره بأنه سيقدم له بعض شخصيات رواياته السابقة، وحتى لا يسأل أحد هذا السؤال عرف «سامح» كيف يرد عليه مقدمًا، فيقول لـ«سعيد»: «لا تسألنى عن اسم الرواية التى أستحضر منها الشخصية حتى لا أبدو كأنى أقوم بدعاية لأعمالى، لكن سأشرح لك شيئًا عن كل شخصية لتكتبها فنيًا»، فيشرح له من هو «البهى» مثلًا أو من هى «صفاء» الأولى أو الثانية ومن هى «يارا»، وهؤلاء هم من استحضرهم من رواياته، ويحكى له علاقته بهم كأنها حقيقة، بل ويمارس الحياة معهم من جديد كأنهم حقيقة أمام ومع سعيد صابر ليكتب ما يراه.
هى إذن آلية فنية لجأ إليها الروائى الخدعة، لتمكين القارئ من فهم الشخصية وخداعه أيضًا، ليبدو وكأنه يقدمهم لأول مرة كما أنه لم يترك مجالًا لسؤال: «ماذا إذا كان القارئ لم يقرأ الروايات السابقة؟»، لقد صاروا شخصيات قائمة بذاتها بعد أن ذكر سامح عبدالخالق لسعيد صابر أوصافهم وأعمالهم ومن أين جاءوا.
القارئ ينسى أنها شخصيات فنية لأنها تمر بسرعة ولا يتذكر ذلك، إلا عند خروج كل منها من الرواية، وعودته إلى ما كان فيه أو عليه.
■ هل هناك شخصيات مستمدة من الحياة الحقيقية؟
- «سعدية» التى تقابل سعيد صابر هى الشخصية الرئيسة المستمدة من الحياة الحقيقية.
وهناك شخصية أخرى تأخذ مساحة أكبر من شخصيات الوهم وأقل من «سعدية» الحقيقة، هى شخصية «زين عباد الشمس» الذى كان فى نية الروائى الخدعة سامح عبدالخالق أن يكتب عنه يومًا، باعتباره كان زميلًا له فى المدرسة ومات، لكنه كتب فصلين صغيرين ثم توقف فلم يتركه مع الموتى، ولم يدخله فى وهم الأحياء.
ويقفز «زين عباد الشمس» إلى الرواية فيأخذ مساحة أكبر من غيره من الشخصيات الفنية وأقل من «سعدية» الحقيقة، وهذا هو ما أقصده باللعب الفنى، المهم فى النهاية أنها كلها شخصيات فى رواية جديدة.
ولا تسألنى كيف «قفز» زين إلى الرواية ولم يكن وهمًا. أنا نفسى تحيرت حين قفز لكنى لا أنسى أنى عام ١٩٧٨ فكرت بالفعل أن أكتب عنه ولم أكمل ما كتبت.
سامح عبدالخالق حكى لسعيد صابر كيف كان ذلك تبريرًا فنيًا للشخصية، لقد عاد زين عباد الشمس ليأخذ حقه الضائع، والحقيقة فرحت جدًا بعودته أثناء الكتابة، لأنه أشعل الرواية بأحداث رائعة كنت سعيدًا جدًا وأنا أكتبها أو يتخيل سعيد صابر أنه يكتبها.
■ الرواية مليئة بالحيل والخداع.. ألم تخش على تركيز القارئ؟
- الرواية كلها قائمة على الحيل والخداع الفنى من أول صفحة، بعد أن تقرأ الصفحات الأولى تكتشف أن صابر سعيد يكتب الرواية، بعد أن وافق له سامح عبدالخالق على كتابتها، ويفاجئ القارئ أن الصفحات الأولى من خياله، رغم أن الأحداث جرت قبل أن يراه سامح عبدالخالق ويوافق له. كما أنه لم يكن فى مقبرة مثلًا وخرج منها. إنه يبرز قدراته على بناء الرواية الجديدة، هو الذى كان محبًا للتأليف والإخراج المسرحى التجريبى.
■ هل استخدمت تلك الآليات فى رواياتك السابقة؟
- استخدامى لفكرة الخدعة يحدث بشكل متدرج يزداد مع التقدم فى الكتابة، وكثيرًا ما مشيت فى وسط البلد أبحث عن شخصيات كتبتها ثم أكتشف أنها وهم. ويحدث هذا أكثر بالنسبة للشخصيات التى استحضرتها بها من حياتى الشخصية.
■ هل ترى أن كل رواية هى التى تفرض سياقاتها؟
- طبعًا.. أنت ككاتب مفعول به والشخصيات هى صانعة الرواية، وأنت ككاتب تبذل مجهودًا أكبر فى البناء الفنى وتنوع فيه إذا كنت جادًا.
■ المكان علامة مهمة ودالة فى أعمالك.. كيف توظفه؟
- المكان قضية مهمة فى الفلسفة وفى الكتابة الأدبية، والمكان فى تاريخ الرواية مر بمراحل منها المرحلة الكلاسيكية التى كان الكاتب فيها يعمل على الوصف حتى يجعل القارئ يرى المكان، مرورًا بالمرحلة الرومانتيكية التى كان الكاتب فيها يصف المكان كما تراه الشخصية، فإذا كانت سعيدة فهى ترى الجميل فى المكان، وإذا كانت تعيسة ترى السيئ فيه، تمامًا كالزمن يمر بسرعة على السعيد ولا يمر على التعيس.
أنا من زمان اقتنعت بأن المكان هو صانع الشخصيات أو أحد العوامل الرئيسة فى صناعتها، وصناعتها هنا تعنى الأحداث التى تقع واللغة التى تتكلم بها الشخصيات.
فى المكان المتسع مثلًا يمكن أن تحلم بملاك جميل من السماء، وفى المكان الضيق مثلًا يمكن أن يفاجئك كابوس بشخص يقتلك.
فى المكان لو تحدثت وأنت جالس ستكون عباراتك فى الحديث، غيرها وأنت تهبط السلم أو تصعده، وهكذا. باختصار نحن مفعول بنا من الشخصيات الروائية ومن المكان والزمان أيضًا فى الرواية.
■ تناولت الحبوب المهدئة وأنت تكتب إحدى رواياتك.. هل تعيش تفاصيل أعمالك لهذه الدرجة؟
- للأسف حدث ذلك أثناء كتابة الرواية وبعدها لفترة قصيرة، لكنى استطعت التخلص من ذلك باحتساء القهوة وسماع الموسيقى الكلاسيكية.
■ هل هناك عمل جديد بدأت فى كتابته؟
- هناك طبعًا.. لكنى فى الصيف الآن، وأتوقف فيه عن الإبداع، وقد أستكمل مع الشتاء- إذا كان لى عمر- كما أنى لا أحب الحديث عن شىء أعمل فيه، ثم إن «السايكلوب» رواية جديدة دعها تتفاعل حتى لا يخرج منها «السايكلوب» وينهش لحمى أنا!.